آيات قرآنية

الفصل السادس:

الدعاء والاستجابة

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {وإذا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فإنِّي قَريبٌ أُجِيبُ دعوةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ فلْيستجيبوا لي ولْيُؤمِنُوا بي لَعلَّهُم يَرشُدونَ(186)}

ومضات:

ـ يزيل الله تعالى بهذه الآية كلَّ الحواجز النفسية والمادية والبشرية، الَّتي يتوهَّم المرء وجودها بينه وبين الله، ويحثُّه بذلك على التجرُّد من كلِّ شيء، والتوجُّه إليه بقلب نقيٍّ صافٍ، واثق من حسن إجابته عزَّ وجل.

ـ في الآية إرشاد إلى المداومة على الدعاء والاجتهاد فيه؛ لاستمرار القرب من الله، والصلة معه.

في رحاب الآيات:

الدعاء الحارُّ النابع من الأعماق، يغسل القلب ويطهِّر النفس من الأدران، وهو ملجأ المحبِّ العاشق، والمحتاج الملهوف، والسعيد الظافر، والحزين السقيم، والمتألِّم المتأوِّه. فهو مخرج من كلِّ ضيق، وتعبير عن كلِّ نشوة، ولهذا فإن الله جلَّ وعلا يحبُّ اللحُوحَ في الدعاء، الَّذي يضرع إليه في سائر الأوقات والظروف.

والإنسان في حاجة دائمة إلى مَدَدٍ علوي، وعَونٍ إلهي في كلِّ أموره، لذلك فهو بالفطرة يبسط كفَّيه بالدُّعاء كلَّما داهمه خطب، أو ألمَّت به نازلة وضاقت به السبل، طالباً المعونة والفرج من خالقه، مستزيداً من فضله. والله تعالى يُطمئن عباده بأنه قريب منهم، بل أقرب إليهم من حبل الوريد، فليتوجَّهوا إليه بقلوبهم وجوارحهم، فهو معهم يسمعهم ويستجيب لهم، وليس بينه وبينهم واسطة أو حجاب، فليدعوه وليرجوه بما شاؤوا. فالدعاء مخُّ العبادة، لما له من دور هامٍّ في تمتين الصلة مع الله عزَّ وجل، وإبقائها حيَّة نابضة، وقد حثَّ عليه الرسول الكريم في أحاديث كثيرة منها قوله: «إن الله تعالى حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردَّهما صفراً خائبتين» (رواه أحمد وأبو داود عن سلمان رضي الله عنه ). وقوله صلى الله عليه وسلم : «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدِّين، ونور السموات والأرض» (رواه أبو يعلى والحاكم عن الإمام علي رضي الله عنه ).

وفي لحظات الدعاء الحقيقي يصل المؤمن إلى ذروة الصفاء مع الله عزَّ وجل، فتنحلُّ القيود وتنزاح الحجب بين المخلوق والخالق، ويهيم القلب المشرق بنور الله بين التذلُّل والتدلُّل، خاشعاً منيباً، طامعاً بفضل الله، راغباً في طلب المزيد، متوجِّهاً إلى ربٍّ جليلٍ كريم؛ حيث يقول سبحانه: {قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربِّي لولا دُعاؤكُم..} (25 الفرقان آية 77).

وللدعاء آداب يجب توفُّرها عند الشروع به ومنها:

1 ـ تحميد الله والثناء عليه ثمَّ الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى والثناء عليه وليُصلِّ على النبي ثمَّ ليدعُ بما شاء» (رواه أبو داود والترمذي وابن حِبَّان عن فُضالة بن عبيد رضي الله عنه ). ومن أجمل كلمات الثناء؛ ثناء رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام على الله عزَّ وجل عندما استسقى لقومه فقال لهم: «إنكم شكوتم جَدْبَ دياركم واستئخار المطر عن إبَّان زمنه عنكم، وقد أمركم الله بالدعاء ووعدكم أن يستجيب لكم، ثمَّ دعا قائلاً: الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدِّين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهمَّ أنت الله، لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنْزِلْ علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوَّة وبلاغاً إلى حين» (رواه أبو داود والحاكم).

2 ـ مدُّ اليدين ورفعهما إلى السماء والسؤال ببطون الأكُفِّ لا بظهورها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «سلوا الله ببطون أكفِّكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» (رواه أبو داود والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه ).

3 ـ الدعاء بالخير، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا تدْعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» (رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها).

4 ـ التأمين: أي أن نقول آمين يارب العالمين في ختام الدعاء؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إذا دعا أحدكم فليؤمِّن على دعاء نفسه» (رواه ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

ويستجاب الدعاء في مواطن كثيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أبواب السماء تُفتَّح، ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصَّلاة، وعند رؤية الكعبة» (رواه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه ). ويُستحبُّ الدعاء في جوف الليل قال صلى الله عليه وسلم : «أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الأخير فإن استطعت أن تكون ممَّن يذكر الله في تلك الساعة فكن» (رواه الترمذي والنَّسَائي والحاكم عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه ).

أمَّا الَّذين لا تُرَدُّ دعوتهم فمنهم ثلاثة، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة لا تردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتَّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتُفتَّح لها أبواب السماء ويقول الربُّ تبارك وتعالى: وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وكذلك دعوة الأخ لأخيه في غيابه مستجابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعاء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكَّل به كلَّما دعا لأخيه بخير قال الملك آمين ولك مثل ذلك» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ) ، وكذلك دعوة المريض والمبتلى مستجابة ، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :«إذا دخلت على مريضِ فَمُرْهُ يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة» (أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه )، وذلك لأن المريض المبتلى يرقُّ قلبه، فيلتجئ إلى الله بصدق وانكسار .

أمَّا شروط استجابة الدعاء فهي:

1 ـ اليقين بالإجابة مع حضور القلب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاهٍ» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

2 ـ عدم الدعاء بـإثم أو قطيعة رحم وعدم الاستعجال على الله في الإجابة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ما من رجل يدعو بدعاء إلا استُجيب له، فإمَّا أن يُعجَّل له في الدنيا، وإمَّا أن يؤخَّر له في الآخرة، وإمَّا أن يُكفَّر عنه ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل فيقول: دعوتُ ربِّي فما استجاب لي» (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ). وقال صلى الله عليه وسلم : «يُستجاب لأحدكم ما لم يَعجل، يقول دعوت فلم يُستجب لي» (رواه الشيخان).

3 ـ توخِّي الحلال في المأكل والمشرب والملبس، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمُدُّ يديه إلى السماء، يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام وغُذيَ بالحرام فأنَّى يستجاب لذلك؟» (رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

4 ـ الإكثار من الدعاء حين الرَّخاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَن سَرَّهُ أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب فليكثر الدعاء في الرخاء» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

أمَّا استجابة الدعاء؛ فقد تكون معجَّلة في الدنيا، أو مؤخَّرة إلى الآخرة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتَّى يوقفه بين يديه فيقول: عبدي! إني أمرتك أن تدعوني، ووعدتك أن أستجيبَ لك، أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغمٍّ نزل بك أن أفرِّج عنك ففرَّجتُ عنك؟ فيقول: نعم يارب، فيقول: إني عجَّلتُها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغمٍّ نزل بك أن أُفَرِّج عنك فلم تَر فرجاً؟ قال: نعم يارب، فيقول: إني ادَّخرتُ لك بها في الجنَّة كذا وكذا، فلا يَدَعُ الله دعوةً دعا بها عبده المؤمن إلا بيَّن له، إمَّا أن يكون عجَّل له في الدنيا، وإمَّا أن يكون ادَّخر له في الآخرة، قال: فيقول المؤمن في ذلك المقام: ليته لم يكن عجَّلَ له شيئاً من دعائه» (رواه الحاكم عن جابر رضي الله عنه ).

ويخاطب الله تعالى النفوس المؤمنة، ويهزُّها من الأعماق هزّاً خفيفاً رفيقاً، فربَّما نسـيت ـ وهي في غمرة الحياة ومشـاغلها ـ واجبـاتهـا نحو خالـقها، أو قصَّرت فيهـا فيذكِّرها بقوله: إذا كنت أنا ربُّكم الغني عنكم أستجيب دعاءكم، أفلا تستجيبون أنتم لدعوتي فتؤمنون بي، وتمتثلون لأوامري وأنتم مفتقرون إليَّ، وفي استجابتكم لندائي حياتكم ونجاتكم؟ إنها دعوة رائعة تسكب في قلب المؤمن وُدّاً وأُنْساً ورضاً، ويعيش معها في ملاذٍ أمين وقرار مكين في حمى ربٍ قريب مجيب.

سورة الأعراف(7)

قال الله تعالى: {ادعوا ربَّكُمْ تضرُّعاً وخُفْيَةً إنَّه لا يُحبُّ المعتدين(55) ولا تُفسدوا في الأرضِ بعد إصلاحِهَا وادعُوهُ خوفاً وطمعاً إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين(56)}

ومضات:

ـ الدعاء هو طلب المخلوق من الخالق تحقيق بعض غاياته أو قضاء حوائجه، ولا يمكن أن يثمر دعاء من أجل إصلاح ما فسد، أو إعادة بناء ما تهدَّم، ما لم يقترن بالعمل الجادِّ لتحقيق هذه الأهداف؛ ولا يقبل الله تعالى دعاء من يترجَّى الله بلسانه من أجل الإعمار، بينما تحمل يده معول التخريب وتُعْمِل الهدم والفساد في الأرض.

ـ الدعاء اللحوح، المتفجِّر في خفية عن الأعين والأسـماع ـ سوى عين الله وسمعه ـ والممزوجُ بدموع القلوب المحترقة بحبِّ الله، المعترفة بفضله وقوَّته؛ هو الطريق لإعمار النفوس بالإيمان، والمجتمع بالخير والسَّلام.

في رحاب الآيات:

الدعاء مناجاة حميمة بين المخلوق والخالق، ووسيلة اتصال مباشرة بحضرة الله. إنه مكالمة سرِّية بين العبد الفقير المحتاج والربِّ الغني المعطاء، تنقلها أسلاك خفيَّة تصل ما بين قلب العبد والذَّات الإلهية، وما أكثر ما يحتاج العبد، وما أكثر ما يستجيب الله!. وإن أبلغ الدعاء ما كان في خفية وتضرُّع، لأنه أَلْيَق بجلال الله وعظمته، إذ هو دليل على عمق الإيمان وعلى الثقة المطلقة بقرب الله وسعة رحمته. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّها الناس ارْبَعُوا (أي ارفقوا وهوِّنوا) على أنفسكم، إنكم لستم تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم» (رواه مسلم) وقال أحد الصالحين: [إن الله إنما يُتَقرَّب إليه بطاعته فما كان من دعائكم الله، فليكن في سكينة ووقار، وحسنِ سَمْتٍ وزيٍّ وهدي وحسن دعة]. والدعاء الخفي إن لم يكن واجباً فهو مندوب ويدلُّ على ذلك وجوه:

1 ـ إن الله تعالى أثنى على نبيِّهِ زكريا فقال: {ذِكْرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريَّا * إذ نادى ربَّه نداءً خفيّاً} (19 مريم آية 2ـ3).

2 ـ قال الرسولصلى الله عليه وسلم : «دعوة في السرِّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» (رواه الحسن البصري) وأضاف: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربِّهم، وذلك أن الله يقول: {ادعوا ربَّكُمْ تضرُّعاً وخُفْيَة}.

3 ـ إن النفس شديدة الرغبة في الرِّياء والسمعة، فكان الأَولى في الدعاء الإخفاء ليبقى مصوناً عن الرِّياء.

وعلى المؤمن أن يتوخَّى في الدعاء عدم الاعتداء، وذلك بطلب غير المشروع، كضرر العباد، أو طلب الغنى بلا كسب؛ كأن يكتفي الإنسان بالكلمات دون العمل وتعاطي الأسباب، فما كان الله ليرزق عبداً يجلس في أعالي الجبال يطلب القوت والمأوى، فالله يحب المتوكِّلين ولا يحب المتواكلين. وطلب المغفرة مع الإصرار على الذَّنب، صورة من صور الاعتداء، فلابدَّ من توبة وإنابة لكي يُقبَل الدعاء، ومنها كذلك التوجُّه بالدعاء لغير الله.

كما أن على المؤمن أن يدرك أن دفقة الحياة في الدعاء، هي الخوف والطمع والرجاء: الخوف من عقاب الله، والطمع والرجاء في مغفرته ورضوانه، حتَّى يكون الرجاء والخوف ملازمين له كجناحي الطائر، يحملانه في طريق استقامته، فإذا اكتفى بأحدهما هلك. والترغيب بالرجاء يقترن مع الدعوة إلى خشية الله، واتِّقاء عذابه في جميع آيات القرآن الكريم، قال تعالى: {نَبِّئ عبادي أَنِّي أنا الغفور الرَّحيم * وأَنَّ عَذابِي هوَ العذابُ الأليم} (15 الحجر آية 49ـ50).

فمن صحَّة الدعاء أن تذوب على أعتاب الله بقلب يحترق حبّاً وخوفاً، ودموع سخيَّة مدرارة تغسل الذُّنوب، وتبدي الندم على ما فرَّطت من حقوق الله، وأنت بين رجاء وأمل لا تقنط من رحمة الله ولا تيأس، موكلاً الأمر كله إلى ربِّ العالمين، وموقناً بالإجابة. جاء في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فإن ظنَّ بي خيراً فله، وإن ظنَّ شراً فله» (رواه الإمام أحمد وابن حِبَّان في صحيحه والبيهقي)، ثمَّ تترك تقدير الأمور لحضرة الله، فلا تستبطئ الإجابة من الله تعالى، فهو أدرى بما يناسبك، وهو يرى ما لا ترى.

فالدعاء هو توثيق الصلة بين المؤمن وخالقه، وتمتين للعلاقة الفريدة بين الإنسان وربِّه، وهو حالة من حالات الوجد ولون من ألوان الوصال، تصلح به تربة القلب فلا ينبت فيها إلا صالحاً، فإذا صلحت تربة القلوب صلحت أرض المجتمع، وتلاشت عناصر الفساد، وانهارت قوى الإفساد. ورحمة الله ليست محجوبة عن أحد من خلقه شريطة أن ينفِّذ تعاليم الله، وأن يحسن إلى نفسه فيجنِّبها مواطن الزلل، وأن يحسن إلى مخلوقات الله بالحبِّ والوُدِّ والعطاء.

سورة غافر(40)

قال الله تعالى: {وقالَ ربُّكُمُ ادعوني أستجِبْ لكمْ إنَّ الَّذين يستكبِرُون عن عبادَتِي سيَدْخُلُون جهنَّمَ داخِرِين(60)}

 

ومضات:

ـ يحلو الدعاء في لحظات التجلِّي، حين يُغْمَرُ القلب بنور الخالق عزَّ وجل، ويتفجَّر بالمحبَّة والعشق، وتتولَّد فيه الرغبة للُّجوء إلى المبدع العظيم، فيضع المؤمن أمانيه ورغباته وأحلامه بين يدي ربٍّ كريم عطوف رحيم.

ـ ندب الله تعالى عباده إلى دعائه وتكفَّل لهم بالإجابة فضلاً منه وكرماً، ومَنْ أعرض عن دعاء ربِّه فهو مستكبر متعال، مآله إلى جهنَّم صاغراً ذليلاً فيها.

في رحاب الآيات:

تزداد إيجابية القرآن الكريم وضوحاً كلَّما تكررت الآيات الكريمة؛ الَّتي تشجع الإنسان وتحثُّه على التوجُّه المستمر إلى الله عزَّ وجل بالدعاء طلباً لقضاء حاجاته، مهما عظُم شأنها أو صغر. وقد حثَّ الله تعالى عباده على الدعاء، ووعدهم بالإجابة فضلاً منه وكرماً. روى النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة، ثمَّ قرأ: {وقال ربُّكُم ادعُوني أستجبْ لكم...}» (رواه مسلم والطبراني وأحمد والبخاري وقال الترمذي حسن صحيح)، وقال أنس رضي الله عنه : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لِيَسْأَلْ أحدُكُمْ ربَّه حاجته كلَّها» (أخرجه الترمذي وابن حبان)، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفع حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، ولكنَّ الدعاء ينفع مـمَّا نزل ومـمَّا لم ينزل، فعليكم بالدعاء» (أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الدعاء مخُّ العبادة» (رواه الترمذي)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحبُّ الملحِّين في الدعاء» (رواه الطبراني وأبو الشيخ القضاعي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً). وأخرج ابن المنذر عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال ربُّكم: عبدي إنك ما دعوتني ورجوتني فإني سأغفر لك على ما كان فيك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة، ولو أخطأت حتَّى تبلغ خطاياك عنان السماء ثمَّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي». وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أفضل العبادة الدعاء) ثمَّ قرأ هذه الآية.

والتوجُّه للدعاء توفيق من الله، كان عمر رضي الله عنه يقول: (أنا إن مُنعتُ الدعاء أشدُّ عليَّ إن مُنعتُ الإجابة، فإذا أُلْهِمْتُ الدعاء كانت الاستجابة معه). ولكنَّ بعض الناس يعتدُّون بأنفسهم، ممَّا يصرفهم عن اللجوء إلى الله بالدعاء، فيتوهمون أنهم ليسوا في حاجة إلى أية مساعدة إلهيَّة، وأنهم بقوَّتهم وإمكاناتهم يستطيعون تحقيق ما يشاؤون، فَيَحْرِمُونَ بذلك أنفسهم من فيض الله الواسع، ويجعلون بينهم وبينه حجاباً، ولذلك فقد حقَّ عليهم مقت الله والذُّلُّ والهوان سواء في الدنيا أم في الآخرة، أو فيهما معاً، ذلك أنهم نسوا أن ما بأيديهم من قوَّة ومال وصحَّة وعقل، إنما هي في الأصل عطاءات من حضرة الله تفضَّل بها عليهم، فاستعلَوْا استكباراً، ونسُوا أن الله جلَّ وعلا يمهل ولا يهمل، فإذا أخذ الظالم لا يفلته.

سورة النمل(27)

قال الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دعاهُ ويكْشِفُ السُّوءَ ويجعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضِ أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكَّرون(62)}

ومضات:

ـ يقع بعض الناس في الشِّرْكِ الخفي بتوجُّههم الكُلِّي إلى أصحاب النفوذ والجاه والسلطة، ليقضوا لهم حوائجهم، فيكيلون لهم المديح والثَّناء ويكثرون لهم العطاء، متناسين قدرة الله عزَّ وجل على قضاء حوائج الناس وإجابة دعائهم، وأنَّ تصريف الأمور كلِّها بيده وحده جلَّت عظمته.

ـ إن الله سبحانه وتعالى لا يقضي حوائج الإنسان الآنيَّة فقط، بل يدعم وجوده الإنساني بالإمكانات ليصبح أهلاً لقيادة الأمور وتذليل الصعاب.

في رحاب الآيات:

ما أحلى أن يجد الإنسان من يقف بجانبه في الشدائد والأزمات! ومَن أجلُّ وأعظمُ من ربِّ العالمين يغيث عباده عند اضطراب أمورهم، وانقطاع حبل آمالهم؟ وما أكرمها من ساعة نفقد فيها أسباب النجاة، فيتكرَّم علينا مسبِّب الأسباب بالمساعدة والإنقاذ!. ولكن هذه النعم لن تتوافر لعبدٍ، ما لم يلجأ بقلب صادق التوجُّه إلى حضرة الله؛ ولن تتحقَّق لعبد، ما لم يُهْرَع بلهفة إلى خالقه ومولاه يطلب العون والمدد؛ عندها، وبصدق الدعاء والتضرُّع، تحفُّه العناية الإلهية لتقلب عسره يسراً، متخطِّية جميع الموازين البشرية. بينما نجد الناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، فيلتمسون القوَّة والنصرة والحماية في قوَّة من قوى الأرض الضعيفة الهزيلة. أمَّا حين تلجئهم الشدَّة، ويضطرهم الكرب، تزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربِّهم منيبين مهما كانوا من قبلُ غافلين أو مكابرين، أخرج الإمام أحمد عن رجل من أهل البادية قال: «قلت يارسول الله إلامَ تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده الَّذي إن نزل بك ضُرٌّ فدعوته كشف عنك، والَّذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رَدَّ عليك، والَّذي إن أصابك سَنة فدعوته أنزل لك».

والقرآن يُوقظ مشاعر بني آدم بما هو واقع في حياتهم {ويجعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضِ}، فمن الَّذي يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الَّذي استخلف جنسهم في الأرض أوَّلاً، ثمَّ جعلهم قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل يخلف بعضهم بعضاً في مملكة الأرض؟ أليس هو الله الَّذي فطرهم وفق النواميس الَّتي وضعها لإيجادهم في هذه الأرض، وزوَّدهم بالطاقات والاستعدادات الَّتي تسمح لهم بالخلافة فيها، وتعينهم على أداء هذه المهمَّة الضخمة؟ أليس هو الله الَّذي وضع النواميس الَّتي تجعل الأرض قراراً، وتنظِّم الكون بتناسق بحيث تتهيَّأ للأرض تلك الظروف المُساعِدة للحياة، فلو اختلَّ شرط واحد من هذه الشروط الكثيرة، المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه، لأصبحت الحياة على هذه الأرض مستحيلة. وأخيراً، أليس الله هو الَّذي قدَّر الموت والحياة؟ فلو عاش الأوَّلون لضاقت الأرض بهم وبمن جاء بعدهم، ولغدا سير الحياة والحضارة بطيئاً؛ لأن تجدُّد الأجيال هو الَّذي يسمح بتجدُّد الأفكار وبتجدُّد أنماط الحياة دون تصادمٍ، بين القدامى والمحدثين، إلا في عالم الفكر والشعور، ولو بقي القدامى أحياءً، عَظُم التصادم والتناقض، وتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام. فعلينا جميعاً بعون الله تعالى أن ننفِّذ القوانين الإلهية بما يتناسب وكمال هذه القوانين لنصبح أمناء الله في أرضه.

فَمَنِ الَّذي حقَّق وجود هذه الحقائق وأنشأها؟ إنَّه الله لا إله إلا هو، ولكنَّ بعض الناس يغفلون عن هذه الحقائق، وهي كامنة في أعماق نفوسهم، مشهودة في واقع حياتهم، ولكن: {قليلاً ما تذكَّرون} ولو تذكَّرها الإنسان وعقلها، لبقي موصولاً بالله صلة الفطرة الأولى، فلا يغفل عنه ولا يشرك بعبادته أحداً.

سورة الإسراء(17)

قال الله تعالى: {ويَدْعُ الإنسانُ بالشَّرِّ دُعاءَهُ بالخيرِ وكان الإنسانُ عَجُولاً(11)}

ومضات:

ـ الإنسان الحكيم لا يطلب من الله تعالى لنفسه أو لغيره إلا الخير، ولا يستسلم لثورات الغضب أو نوبات اليأس، فيتمنى الهلاك والسوء لنفسه أو لعياله، بل يتحلَّى بالصبر والجَلد، ولا يتخلَّى عن ثقته بالله تعالى الَّذي بيده الخير كله.

ـ قد يطلب الإنسان من الله عزَّ وجل أمراً يعتقد فيه خيره فلا يستجاب له، فإن صبر ورضي فسرعان ما يتبيَّن له خطؤُه، وأن الخير يكمن فيما اختاره الله تعالى له، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : «لو اطَّلعتم على ما في الغيب لرضيتم بالواقع» (متفق عليه).

في رحاب الآيات:

قال الله تعالى: {خُلِقَ الإنسانُ من عَجَلٍ..} (21 الأنبياء آية 37) فالعجلة في طبع الإنسان وتكوينه، فهو يمدُّ بصره إلى ما وراء اللحظة الحاضرة، يريد أن يتحقَّق له كلُّ ما يخطر بباله، وكلُّ ما تصبو إليه نفسه، وقد يكون في ذلك ضرره، أو حتَّى هلاكه. إلا أن من امتلأ قلبه بحبِّ الله فإنه يثبت عند الشدائد، ويصبر، وَيَكِل الأمر لله فلا يتعجَّل قضاءه. ذلك أنَّ الإيمان ثقة وصبر واطمئنان، فالمؤمن يتعاطى الأسباب بالشكل الصحيح المدروس، ويخطِّط لكلِّ عمل يقوم به، ويعطي كلَّ مرحلة من مراحل التنفيذ حقَّها من الجهد والعمل والتطبيق؛ فيعمل بوعي وهدوء وإتقان، وبإمكانات عقلية متفتِّحة، وبذلك تصبح إمكانية الوقوع في الخطأ أقل، وهذا من شأنه أن ينظِّم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. فالمجتمع المبني على النظام يَحدُّ من تجاوز بعض أفراده لرقاب بعض، واتِّخاذهم مطيَّة للوصول إلى أهدافهم، فالتأنِّي والهدوء يجعلان العقل هو القائد وهو الرائد، والعجلة تجعل الهوى والشهوة هما المسيطران وهما الدافعان، ومتى كان الهوى يقود إلى الصواب؟ ومتى كانت الشهوة تنظر بعين الحق؟.

وقد نهى الله جلَّ وعلا الإنسان عن العجلة الَّتي جُبِلَ عليها تكوينه، لأن له من الإرادة وحريَّة الاختيار، ما يجعله قادراً على امتلاك جماح نفسه، والنأي بها عن طريق الخطر. وهذا ليس من قبيل تكليفه بما لا يُطاق، بل إنه امتحان واختبار لإرادته، ولتمييز من امتثل أوامر ربِّه ممَّن ضرب بها عرض الحائط فخسر وندم، لذلك قيل: [إياكم والعجلة فإن العرب تكنِّيها أمَّ الندامات]، وقال آدم عليه السَّلام لأولاده: (كُلُّ عملٍ تريدون أن تعملوه فقفوا له ساعة، فإني لو وقفتُ ساعة لم يكن أصابني ما أصابني).

ومن أنواع العجلة أن يبالغ الإنسان في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أنَّ فيه خيره، مع أن ذلك قد يكون سبب بلائه وإيذائه، وإنما يُقْدِم على ذلك العمل لكونه عجولاً مغترّاً بظواهر الأمور، غير متفحِّص لحقائقها وأسرارها. وقد يدعو على نفسه أو ولده عند الضجر أو اليأس بما يتمنَّى بعد خمود ثورة غضبه ألا يكون قد استجيب له، فالعاقل مَنْ يتحرَّى الهدوء وضبط الأعصاب ما أمكن، لأن في ذلك نجاحه واستقرار المجتمع الَّذي ينتمي إليه؛ وأن يسلِّم قيادته لله تعالى ويوكل أمره إليه، موقناً بأنَّه تعالى أدرى بمصلحته، وبما فيه خيره في دينه ودنياه ومعاشه وعاقبة أمره.