آيات قرآنية

الفصل الخامس:

التَّوبة وَسعَةُ المغفرة الإلهيَّة

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {وإذا جاءَكَ الَّذين يُؤمنون بآياتنا فقلْ سلامٌ عليكم كَتَبَ ربُّكم على نفسهِ الرَّحمةَ أنَّهُ من عَمِلَ منكم سُوءاً بجهالةٍ ثمَّ تابَ من بعدِهِ وأصلحَ فأنَّه غفورٌ رحيمٌ(54)}

ومضات:

ـ إذا جاءكم الَّذين يؤمنون بالله الواحد الأحد، وبتعاليمه وآياته في خلقه وإبداعه، فقولوا لهم سلام عليكم، السرور والطمأنينة والسعادة لكم في أحضان الإسلام، والرحمة منحة لكم من الرحيم الرحمن، فما أنتم إلا بشر تنحدرون من آدم عليه السَّلام، وكلُّ بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوَّابون المصلحون.

في رحاب الآيات:

خطاب كريم من ربٍّ كريم لرسول كريم، لكنَّه يشمل كلَّ مسلم في كلِّ حين، ومضمونه: يا أيُّها النبي إذا جاءك الَّذين يؤمنون بآياتي المبثوثة في كلِّ ركن من أركان هذا الكون، في السموات والأرض والنجوم والكواكب، والشجر والدواب، وفي أنفسهم، فبارك إيمانهم، وشدَّ على أيديهم مقوِّياً عزائمهم مباركاً جهودهم، وبشِّرهُم إن صدقوا وأخلصوا؛ برحمة الله ورضوانه، وبأن لهم منه السَّلامة من كلِّ عقاب، والبراءة من كلِّ عذاب. قال عكرمة: نزلت هذه الآية في الَّذين نهى الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه و سلم عن طردهم، فكان إذا رآهم النبي صلى الله عليه و سلم بدأهم بالسَّلام وقال: «الحمد لله الَّذي جعل في أمَّتي من أمرني أن أبدأهم بالسَّلام» (أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ).

وقد استعملت الآية كلمة (سلام) لما فيها من دلالة على الأمن والرِّضا والطمأنينة، الَّتي يتوخَّاها كلُّ إنسان يعيش على ظهر هذا الكوكب، ولأن السَّلام اسم من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته. ومع السَّلام أتت الرحمة الَّتي كتبها الله على ذاته القدسية، كرماً منه ومِنَّةً وتفضُّلاً، فقد ورد في الصحيحين عن الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «لـمَّا قضى الله على الخلق كَتَبَ في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي».

وقد قضى الله تعالى عندما خلق الإنسان أن جعله مخلوقاً مشرَّفاً بالتكليف، ولم يكلِّفه الكمال، لأن التكليف به تكليف بما لا يطيق، {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا..} (2 البقرة آية 286) وإنما كلَّفه أن يستعين بربِّه ليتغلَّب على وسوسة الشيطان، وأن يتطهَّر من الدنس كلَّما تورَّط في الإثم، وأن يرتقي في مدارج الاستقامة، ويبتعد عن مسالك الخطيئة؛ الَّتي لا عصمة له من ارتكابها، ولكنَّه مأمور بالرجوع عنها، ليخرج من دائرة الشرِّ والأشرار، ويدخل في زمرة الأخيار الَّذين قال في حقِّهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : «كلُّ ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون» (رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أنس رضي الله عنه ). فهذا القول هو تفسير لطبيعة سلوك البشر؛ فكما أخطأ أبوهم آدم فكلُّ واحد منهم معرَّض للخطأ. فإمَّا أن يسرع بالتَّوبة ويتوب، فيتوب الله عليه كما تاب على آدم، وإمَّا أن يصرَّ على ذنبه ويستكبر عن التَّوبة، فيُحرم رحمة الله ورضوانه كما حُرم منها إبليس الَّذي أصرَّ على ذنبه واستكبر.

فالتَّوبة هي صلة مباشرة بالله، ويقظة روحية واستشعار بالانحراف، والعمل على العودة إلى الصراط المستقيم والثبات عليه. أمَّا الإصرار على الإثم والتمادي فيه، فهو مظهر للفراغ الروحي المتولِّد عن موت الإحساس والضمير عند من يرتكبونه، لذلك فهم قلَّما يشعرون بالألم الباعث على الندم. ولهذا كان الإصرار على الذنب من صفات الكافرين، قال تعالى: {إنَّهم كانوا قَبْلَ ذلك مُتْرَفين * وكانوا يُصِرُّونَ على الحِنثِ العظيم} (56 الواقعة آية 45ـ46).

وقد فتح الله تعالى باب التَّوبة على مصراعيه أمام عباده، فقد روى مسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتَّى تطلع الشمس من مغربها».

سورة النساء(4)

قال الله تعالى: {إنَّما التَّوبة على الله للَّذين يعملونَ السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ يتوبونَ من قريبٍ فأولئكَ يتوبُ الله عليهِمْ وكان الله عليماً حكيماً(17) وليستِ التَّوبة للَّذين يعملونَ السَّيِّئاتِ حتَّى إذا حَضَرَ أحدَهُمُ الموتُ قال إنِّي تُبْتُ الآن ولا الَّذين يموتون وهمْ كُفَّارٌ أولئكَ أعتدْنا لهمْ عذاباً أليماً(18)}

سورة النساء(4)

وقال أيضاً: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نفسَهُ ثمَّ يستغفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رحيماً(110)}

سورة النحل(16)

وقال أيضاً: {ثمَّ إنَّ ربَّكَ للَّذين عَمِلُوا السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ تابوا من بعدِ ذلك وأصلَحُوا إنَّ ربَّك من بعدِها لغفورٌ رحيم(119)}

سورة طه(20)

وقال أيضاً: {وإنِّي لغفَّارٌ لمن تابَ وآمنَ وعَمِلَ صالحاً ثمَّ اهتدى(82)}

ومضات:

ـ الذنب يسبب البعد عن الحضرة الإلهية، والتَّوبة تقرِّب إلى الرحمن الرحيم لما فيها من ندم وإنابة إليه سبحانه، فما أحلى المسارعة في الاستغفار، وتصحيح المسار، وتقديم الاعتذار للواحد القهار.

ـ المغفرة الإلهية تعني عفوه تعالى عن الذنب الَّذي يرتكبه المؤمن أو عن التقصير الَّذي يبدر منه.

ـ لا يمنح الله تعالى المغفرة هكذا جزافاً لمن يخطئ، بل يقيِّد ذلك بشروط أهمُّها:

ا ـ أن يتخذ المذنب قراراً حازماً بالإقلاع عن الذنب وعدم العودة إليه.

ب ـ أن ينهـج طريـق العمل الصحيـح المثمر، ويكثر ـ جهده ـ من العبادات وعمل الخير، ويصلح ما نجم عن خطئه فالحسنات يذهبن السيئات.

ج ـ أن يتحلَّى بالإيمان الكامل بأن ما رسمه تعالى له هو لخيره ولصالحه، وأن يجعل النور الإلهي قائده ودليله في مسيرة حياته.

في رحاب الآيات:

إن جهلك للقانون لا يعفيك من المسؤولية، ولا ينجيك من عواقب مخالفته. هذا هو مقتضى مجموع النُظُم والقوانين البشرية الَّتي تحكم المجتمع الدنيوي في كل بلدان العالم. أمَّا القانون الإلهي فيحدِّد أنه متى كانت نيَّتك في العمل صادقة خالصة لوجه الله تعالى، فأنت غير مؤاخذ عما يبدر منك من الأخطاء، الَّتي تجهل أنها أخطاء، وهذا بعض ما عناه الرسول صلى الله عليه و سلم بقوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (متفق عليه) إلا أنه في اللحظة الَّتي تدرك فيها خطأك، فأنت مطالبٌ بالتَّوبة النصوح، الَّتي تعني الرجوع عن الخطأ وعدم العودة إليه.

فالإنسان قد يخطئ فيسيء إلى نفسه، أو إلى غيره دون علم وبحسن نية، أو تحت تأثير الضعف البشري الَّذي يعتريه كلما عُرضت أمامه صنوف الشهوات وأنواع الفتن. فإن سارع إلى استدراك ما فرَّط فيه فندم ثمَّ أَتْبع عمله السيء عملاً حسناً، وأصلح ما نجم عنه من إفساد تاب الله عليه، ووجد أبواب رحمته مفتَّحة أمامه، وأمام جميع الخاطئين المتطهرين، إذا أنابوا إليه بتوبة صادقة، مقرونة بصلاح القلب وإصلاح الحال، مشفوعة بالتزام شرع الله القويم، بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، سواءً منها المادية كالمال، أو المعنوية كالإساءة إلى الناس وذلك بردِّ اعتبارهم وصيانة كراماتهم. فلعلَّهم بذلك يندرجون في طائفة التائبين الَّذين استثناهم الله من عذابه وأكرمهم بمغفرته، قال تعالى: {إلاَّ من تابَ وآمنَ وعَمِلَ عملاً صالحاً فأولئكَ يُبَدِّلُ الله سيِّئاتِهِم حسناتٍ وكان الله غفوراً رحيماً} (25 الفرقان آية 70). لكن وللأسف الشـديد فقد درج العوامُّ من الناس ـ عنـدما ينصحهم أهـل الفضل بالكـفِّ عن المعاصي والموبقات ـ على أن يقولوا: دعونا نَعِشِ الحياة كما يحلو لنا فالله غفور رحيم. إن هذه العبارة ناقصة وهي تعبِّر عن جزء من الحقيقة ، فالله واسع المغفرة، بدليل قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي الظنَّ الحسن» (رواه البخاري) ولكن الله أيضاً شديد العقاب، بدليل قوله تعالى: {ومن يبدِّل نِعمة الله منْ بعدِ ما جاءَتهُ فإن الله شديدُ العقاب} (2 البقرة آية 211). ثمَّ إن مغفرته تعالى متاحة لمن يطلبها بصدق العزيمة، ويُصلح ما نجم عن خطئه من الفساد؛ فهل يصحُّ أن نكسر نافذة الجيران ثمَّ نقول لهم: عفواً على كسرها دون أن نتقدَّم لإصلاحها، طامعين بسماحهم وسعة صدرهم؟. فالذنب يُحدث أثراً في نفس مرتكبه، وفي نفوس الآخرين، ولهذا كان لابدَّ من عمل جادٍّ لإزالة آثار الخطأ سواء من صفحات قلوبنا أم من صفحات قلوب الآخرين. وهذا العمل الجادُّ هو ما نسميه بالتَّوبة، وهي تغيير مسار حياتنا من الخطأ إلى الصواب، ويكون ذلك عن طريق الندم بالقلب، والاعتذار باللسان بأن نستغفر الله، والإقلاع بالجوارح وهو الكفُّ عن الذنب وإصلاح ما نجم عنه من ضرر وإساءة للآخرين، ثمَّ الاتجاه فكراً وقلباً نحو حضرة الله، والعمل على إصلاح أخطاء المجتمع وعيوبه بكلِّ وسائل الحكمة والرفق واللين، وتقديم الخدمات المختلفة له، من نشرٍ للعلم، وإصلاح بين المتخاصمين وغيره، وأن يكون عملنا خالصاً لوجه الله، وابتغاء محبَّته ورضوانه.

والتَّوبة الحقيقية المثمرة ليست كلمة تقال، وإنما هي توبة النفس الَّتي يهزُّها الندم من الأعماق، فتتوب وتنيب وهي في فسحة من العمر وبحبوحة من الأمل. لا توبةَ الَّذي اقترف من الآثام ما اقترف مع العلم والإصرار، حتَّى إذا أشرف على الموت وآذنت شمسه بالمغيب، وأدرك أنه هالك، أعلن توبته بصوت خنقته حشرجات الاحتضار، وجسد يغالب أنياب الموت، كتوبة فرعون لمَّا أدركه الغرق فقال: {..آمنتُ أَنَّهُ لا إله إلاَّ الَّذي آمنَتْ به بنو إسرائيلَ وأنا من المسلِمين} (10 يونس آية 90) ذلك أن توبته هذه هي توبة المفلس الَّذي أحاطت به خطيئته، ولم يبقَ لديه القدرة على ارتكاب المزيد من الذنوب، ولا فسحة من العمر للانقياد للهوى. وهي توبة ولدت ميتة لا رجاء منها ولا قبول لها، إذ لا يمكن لها أن تنشئ في القلب ندماً بعد أن توقفت نبضاته، أو في الحياة تبدُّلاً بعد أن انتهى أجلها، وبالتالي فإنها لن تُحْدِثَ النتيجة المرجوَّة من التَّوبة وهي الارتقاء في الخُلُق والعودة إلى الرشاد، وهكذا يشترك العاصي المُصِرُّ؛ مع الكافر في مصير واحد، هو عذاب جهنم وبئس المصير؛ ومع ذلك: «فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الَّذي رواه الترمذي والحاكم وأحمد بسند صحيح.

وقدكتب تعالى على نفسه قبول توبة عباده على الرُّغم من استغنائه عنهم، فلا تنفعه توبتهم ولا تضرُّه معصيتهم، ولكنها رحمة منه وزيادة في نفعهم، فبالتَّوبة عن الأخطاء رجوع عن الفساد، وإصلاح لحياة الأفراد والمجتمع. ولو لم يشرع تعالى لهم التَّوبة لما كان لديهم الحافز على الرجوع عن أخطائهم، ولهلكوا بسبب استرسالهم في المعاصي واتِّباع الهوى، ولتصدَّعت البنية الأخلاقية للمجتمع، وانزلق أفراده وراء وسوسة الشيطان، واستسلموا لليأس والقنوط. وبهذا يكون الإسلام قد فتح أمام الإنسان العاصي بابين: باب الإصلاح بالتَّوبة والإنابة، وباب الرجاء والأمل بفضل الله تعالى وكرمه وحسن تقبُّله للمنيبين والتوَّابين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره (أي وجده) وقد أضلَّه في أرضٍ فلاة» (متفق عليه) ذلك أن توبة العاصي تعني عودة الضالِّ إلى جادة الصواب، وهذا ما يريده تعالى لنا، فقد خلقنا لنكون سعداء آمنين في الدنيا، ثمَّ لننعم بجنَّاته وبفضله في الحياة الآخرة، لا ليشقينا في الدنيا ثمَّ يعذِّبنا في الآخرة، تنزَّه الله تعالى عن ذلك. ولهذا كلِّه ينبغي على المسلم أن ينتسب لمدارس الإيمان والتربية الروحية، ويصحب أساتذتها ليشرفوا على تربية قلبه، إلى أن يصبح قلباً سليماً منوَّراً؛ يرى الحقَّ بنور الله فيتَّبِعُه، ويرى الباطل بذلك النور فيجتنبه، وبهذا ينجو من موارد الشكِّ والشبهة الَّتي قد توقعه في الخطأ من حيث لا يدري، ويصبح طريقه آمناً فيمضي فيه مسرع الخطا قاصداً رضوان الله. وإذا ما تعرَّض لزلَّة قدم في مسيرته، فأصاب شيئاً من الذنوب، وتلظَّى بنار الندم على اقترافها، أقبل نحو شجرة التَّوبة، وجعل يستظلُّ بظلالها الوارفة، ثمَّ يتابع مسيرته.

سورة التَّوبة(9)

قال الله تعالى: {وآخرون اعتَرَفُوا بذُنُوبِهِم خَلَطوا عملاً صالحاً وآخرَ سيِّئاً عسى الله أن يتوبَ عليهم إنَّ الله غفورٌ رحيم(102) خُذْ من أموالِهِمْ صدقةً تُطهِّرُهُمْ وتُزكِّيهِمْ بها وَصَلِّ عليهِمْ إنَّ صلاتَكَ سكنٌ لهم والله سميعٌ عليم(103) ألم يعلموا أنَّ الله هو يَقْبَلُ التَّوبة عن عبادِهِ ويأخُذُ الصَّدَقَاتِ وأنَّ الله هو التَّوَّابُ الرَّحيمُ(104) وقُلِ اعملوا فسَيَرى الله عمَلَكُم ورسولُهُ والمؤمنون وسَتُرَدُّون إلى عالِمِ الغيبِ والشَّهادَةِ فينبِّئُكُم بما كنتم تعملون(105) وآخرونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إمَّا يُعذِّبُهُم وإمَّا يتوبُ عليهم والله عليمٌ حكيم(106)}

ومضات:

ـ تختلف شرائح المخطئين بين معترف بذنبه نادم على فعله، وبين معاند مُصرٍّ ومستهتر؛ والمُقرُّ بذنوبه والمكثر من عمل الخير، تُرجى له المغفرة والتَّوبة عليه من حضرة الله.

ـ الإكثار من الصدقات من أنجع الوسائل في تطهير النفس، وزرع الشعور بالمشاركة والانتماء إلى المجتمع السليم المعافى، كما أن الإنفاق في سبيل الله هو دعامة مكينة للتوبة الحقيقية؛ وكذا كلُّ عمل مُجْدٍ ومستمر هو بمثابة بطاقة انتساب للمجتمع الإيماني.

ـ دعاء الرسول الكريم للصحابة، وكذلك دعاء العلماء الصالحين للمؤمنين، يمنحهم شعوراً قوياً بالطمأنينة والراحة النفسية، لما لهم من قرب وحظوة عند ربٍّ سميع مجيب.

ـ تُعرَضُ الأعمال يوم القيامة على الحضرة الإلهية وعلى الرسول صلى الله عليه و سلم ، وعلى المؤمنين الصالحين.

ـ باب الرجاء والأمل برحمة الله تعالى يضيء شعلة التفاؤل، ويبقي المؤمن على أعتاب الحضرة الإلهية لائذاً ومستجيراً.

في رحاب الآيات:

يتفاوت تقييم الناس لبعض المفاهيم بحسب المنظار الَّذي ينظرون إليها من خلاله، وكذلك هو الأمر بالنسبة للمؤمن فقد يعرِّض قلبه لنسمات الإيمان فتتحرَّك كوامن الخير في نفسه، ويتجلَّى له العمل الصالح فيتلقَّفه ويتعهَّده، وهو مدرك بأنه يفعل ما فيه الخير والفائدة من العمل، وقد تأخذه الدنيا بمشاغلها ولهوها فتفوته تلك النسمات، فيتقاعس عن الخير، أو يرتكب ذنباً دون أن يدرك أنه يسيء إلى نفسه أو إلى من حوله. فقيامه بصالح العمل لا يعني أنه ملاك لا يخطئ، وارتكابه لمعصية ما؛ لا يعني بأنه انحطَّ إلى درك الفسق والشر؛ بل إن ذنبه يثقل كاهله، وتضيق به نفسه، فيستغفر الله تعالى وكلُّه أمل بأن يتوب عليه، يحدوه إلى ذلك أمله بعظيم مغفرة الله، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: «إن الله تعالى لا يتعاظمه ذنب عبده أن يغفره» (أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) ذلك أن رحمته تعالى أوسع من أن يدركها عقل بشر. روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنَّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد» (أخرجه مسلم).

ومن عظيم فضله تعالى في قبوله توبة العبد المذنب، نسخُ ذنبه ومحوه من كلِّ السجلات الَّتي تحفظ أعماله، روى أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه و سلم أنه قال: «إذا تاب العبد تاب الله عليه، وأَنْسَى الحفظة ما كانوا كتبوا من مساوئ عمله، وأَنْسَى جوارحه ما عملت من الخطايا، وأَنْسَى مقامه من الأرض، وأَنْسَى مقامه من السماء، ليجيء يوم القيامة وليس شيء من الخلق يشهد عليه بذلك» (أخرجه ابن عساكر). وبناء على ذلك فإن صدور أيِّ زلَّة أو هفوة من المؤمن لا يقتضي إحباط سائر عمله، أو وضعه في قائمة الهالكين؛ فإن لكلِّ جواد كبوة، ولابدَّ من إعطاء المخطئين الفرصة لمعرفة أخطائهم وتبيُّنها، حتَّى يُقِرُّوا بها، ويشعروا بالأسف والندم على ما نجم عنها من آثار سلبية، ومن ثمَّ يباشروا عملية الإصلاح والترميم من جديد. وأوَّل ما عني به الإسلام هو إصلاح أعماق النفس الإنسانية، فما على المخطئ إلا أن يتوجَّه إلى خالقه وحده، ويعترف بين يديه بتقصيره، ويُظهِرَ الرغبة بإصلاح فعلته، دونما حاجة إلى واسطة من البشر، بل إن الله ستر عليه معصيته ويكره منه أن يفضح نفسه.

والخطوة الأولى في طريق الإصلاح تتمثَّل بالإكثار من العبادات والنوافل، فقد روي عن الإمام علي كرَّم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضَّأ فيحسن الوضوء ويصلِّي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له» (أخرجه أحمد في مسنده) ثمَّ تلا هذه الآية: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمَّ يستغْفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رحيماً} (4 النساء آية 110).

أمَّا الخطوة الثانية فهي الإنفاق في سبيل الله، بوجوه البرِّ كافَّة، وهذا ما يربط المرء المقصِّر بإخوانه، حيث تتوطَّد أواصر المحبَّة، وتُمَتَّنُ صلة التراحم والتوادد في المجتمع الإنساني. وقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتولَّى أخذ الصدقات من المؤمنين لتوزيعها على المحتاجين، وكان من حسن حظِّهم حصولهم على دعائه عليه السَّلام لهم بالخير والبركة، مِمَّا يثلج صدورهم ويشعرهم بالأمان والاطمئنان الروحي والنفسي، ويعطيهم دفعاً إيمانيا يقوِّي إرادتهم للسيطرة على أنفسهم، وتصعيد ميولها، وهذا ما عنته الآية آنفة الذكر: {خُذْ من أموالِهِم صدقةً تُطهِّرهُم وتُزكِّيهِم بها وَصَلِّ عليهِمْ إنَّ صلاتَكَ سكنٌ لهم..}.

وقد ترك الإسلام فُسْحَةً واسعة للتوبة الَّتي تنجم عن الرغبة الداخلية والإرادة المصمِّمة، وجعل لها مظهراً عملياً يتمثَّل في الإنفاق الخصب المجدي، لأن عدم إتاحة مثل هذه الفرص أمام المذنبين المستغفرين، يصيبهم بنوع من اليأس يشلُّ شعورهم وتفكيرهم، ثمَّ يقعدهم عن العمل والمشاركة الجماعية، لذا أتى الأمر الإلهي: {وقُلِ اعملوا}، فالمؤمن الَّذي يعمل ويخطئ خير من الَّذي لا يعمل ولا يخطئ. وطالما أن هذا العمل سيكون مشهوداً من قبل حضرة الله ورسوله وسائر المؤمنين، فلابدَّ أنه سيكون عملاً محاطاً بالعناية والرعاية، وبملاحظة المجتمع له وتقويمه إذا اعوجَّ أو انحرف عن جادَّة الصواب، وفي يوم الحساب ستُعْرَضُ نتائج الأعمال على الله تعالى والرسول والمؤمنين لقوله تعالى: {يومئذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخفى منكم خافية} (69 الحاقة آية 18) لذلك فهم يقدِّمون أعمالهم في الحياة الدنيا، وهم في حالة من الرجاء والأمل بأن يقبل الله تعالى عملهم، ويشملهم بعفوه الكريم ويبعدهم عن عذابه، وأن يبلِّغهم مقاصدهم. روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «ما اجتمع الرجاء والخوف في قلب امرئ مسلم عند الموت إلا أعطاه الله ما يرجو وصرف عنه ما يخاف» (أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وأخرجه البيهقي في الشعب عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه ).

لذلك كلِّه فلا ينبغي أن تُرفع عصا الانتقام والعقاب، في وجه المذنب والمقصِّر، طالما أن فرصة التَّوبة متاحة أمامه لينال بها من رحمة الله تعالى، قال صلى الله عليه و سلم : «جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتَّى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا» (متفق عليه). فإذا تاب العبد من ذنبه وأناب فقد حقَّ على المجتمع المسلم أن يحبَّه لأن الله تعالى قد أحبَّه، وأن يدعو له بالثبات على التَّوبة، وأن لا يعيِّره بما سلف من ذنبه، وأن يتعهَّده بالرعاية والعناية فيذكِّره بالله ويعينه على الاستقامة.

سورة التحريم(66)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً عسى ربُّكُمْ أن يُكفِّرَ عنكم سيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ يومَ لا يُخْزِي الله النَّبيَّ والَّذين آمنوا معهُ نورُهُم يسعى بين أيْدِيْهِمْ وبأيمانِهِمْ يقولون ربَّنا أتممْ لنا نُورَنَا واغفرْ لنا إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير(8)}

ومضات:

ـ يدعو الله تعالى عباده المؤمنين ليتوبوا إليه توبة صادقة يلتزمون بشروطها وآدابها، حتَّى يغفر لهم ويدخلهم فسيح جنانه.

ـ يوم الحساب، هو يوم الخزي والعار والندامة للكفار والعاصين، ويوم الإجلال والتقدير للأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ ولمن تبعهم من الصالحين التائبين المنيبين، حيث سيجعل لهم الله نوراً يحيط بهم ويُشِعُّ من حولهم، وهم في غبطة وأمل في ظلِّ هذا الفيض الغامر راجين المغفرة التامَّة؛ ومَنْ غيرُ الله قادر على أن يغفر ويرحم؟.

في رحاب الآيات:

المنهج الإلهي المودع في القرآن الكريم غاية في الوضوح، غايـة في الدِّقَّـة، قد وُضـع من أجل إنقاذ الإنسان من أجواء الجهل والتخلُّف والانحطاط الأخلاقي، والارتقاء به إلى مرتبة المؤمن العاقل طاهر القلب. ومع ذلك فإن بعض الناس يجعلون القرآن من وراء ظهورهم فلا يقرؤونه، وبعضهم الآخر يُعْنَى بتجويد حروفه ويهمل فهم معانيه، أو يعرف معانيه ويغفل عن العمل بمضمونها. أمَّا السالك إلى مقام المؤمن الحقيقي فهو الَّذي يوطِّد العزم على تغيير مسار حياته من طريق الضلال إلى طريق الهدى، مع الشعور بالندم على أخطائه، لعلَّ الله يرحمه ويمحو ذنوبه، ويدخله في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة تجري من تحت قصورها أنهار الجنَّة. ثمَّ إن لهذا المؤمن من رحمة الله ومغفرته نوراً يُظلُّه في دنياه وآخرته، نوراً من الحكمة والفيض الربَّاني يذيقه حلاوة الإيمان فيطرب لها، ويشعره بقربه من حضرة الله فيهيم وجداً ويقول: هل من مزيد؟. وفي الآخرة ينضوي هذا المؤمن وأمثاله تحت لواء النبي صلى الله عليه و سلم ، فيفيض عليهم الله تعالى نوراً يضيء لهم الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم، وعن أيمانهم وشمائلهم كإضاءة القمر في الليلة الظلماء، فيدعون الله قائلين: ربَّنا أكمل علينا هذا النور وأَدِمْهُ لنا، ولا تَدَعْنا نتخبَّط في الظلمات ونحن نجتاز الصراط؛ وحينها يستغيث بهم المنافقون والمنافقات قائلين: {..انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ من نُورِكُمْ...} (57 الحديد آية 13). أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يومَ لا يُخْزِي الله النَّبيَّ والَّذين آمنوا معهُ نورُهُم يسعى بين أيدِيهِمْ وبأيمانِهِمْ..} قال: (ليس أحد من الموحِّدين إلا يُعطى نوراً يوم القيامة، فأمَّا المنافق فيُطفأ نوره، والمؤمن يُشفق ممَّا يرى من إطفاء نور المنافق فهو يقول: {ربَّنا أتممْ لنا نورنا} وامحُ لنا ذنوبنا، إنك أنت القادر على المغفرة والعقاب، والرحمة والعذاب). وإلهامُهم هذا الدعاء في هذا الموقف الَّذي يُلجم الألسنة، ويُروِّع القلوب، هو علامة الاستجابة، فما يُلْهِمُ الله المؤمنين الدعاء إلا بعد أن يهيِّئ لهم الإجابة، فالدعاء هنا نعمة يمنُّ بها الله عليهم تضاف إلى مِنَّته بالتكريم وبالنور، فأين هذا النور من النار الَّتي وقودها الناس والحجارة؟ إنَّ هذا لهو الثواب العظيم والفوز الكبير.

سورة الزمر(39)

قال الله تعالى: {قُلْ ياعباديَ الَّذين أَسْرَفوا على أنفسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رحمةِ الله إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيم(53) وأَنِيْبُوا إلى ربِّكُمْ وأسلمُوا له من قبلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ ثمَّ لا تُنصَرُون(54) واتَّبِعُوا أحسَنَ ما أُنزِلَ إليكُمْ من ربِّكُمْ من قبْلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ بَغْتَةً وأَنتم لا تشعرون(55) أن تقولَ نَفْسٌ ياحسرتى على ما فرَّطتُ في جَنبِ الله وإن كنتُ لَمِنَ السَّاخرين(56)}

ومضات:

ـ إنها دعوة ربَّانية لجميع القوافل البشرية الهائمة في دروب الذنوب والمعاصي، لكي يرجعوا تائبين إلى ربٍّ كريم غفور رحيم، فالله يغفر الذنوب جميعاً، وهو أرحم الراحمين. فليستدركوا منيبين مصلحين لما أفسدوا، ويسلموا القيادة إليه، فلا منقذ من العذاب ولا ناصر لهم إلا هو.

ـ ينبغي على العباد أن يشدُّوا الهمم والعزائم لتطبيق التعاليم الإلهية بكل قوَّة ونشاط، قبل أن يفوتَ الأوان ويحلَّ العذاب، فتغرق المراكب بغتة وهم لا يشعرون.

ـ من فاته قطار التَّوبة، وانقطع في صحارى الذنوب والمعاصي، ليس له إلا الهوان والحسرات، فقد تهاون واشتطَّ في اللامبالاة؛ وسخر واستهزأ ثمَّ ندم حيث لا ينفع الندم.

في رحاب الآيات:

إن من أخطر الأسلحة الَّتي يستخدمها الشيطان لإبعاد الخلائق عن الله هو سعيه لإيقاعهم في اليأس والقنوط من رحمة الله. فإذا اقترف عبدٌ ذنباً ولم يكن يدرك سعة رحمته تعالى، ولا يعرف السبيل للوصول إليها، فإن الشيطان لا يزال يحوم حوله ليهوِّل له ما اقترف من إثم، وليشعره بأنه عبدٌ خطَّاء لا خير فيه، ولا أمل يُرتجى منه حتَّى ينكفئ على نفسه مصاباً بالإحباط، وهو يعاني أشدَّ المعاناة ندماً على ما اقترفت يداه، وحزناً لعدم تمكُّنه من التَّوبة، أو عدم قبول توبته كما وسوس الشيطان له. وتأتي رحمة ربِّ العالمين، الرحمة المزجاة للخلائق كافَّة، رحمة الرحمن الرحيم، لتنشر ظلالها على الناس جميعاً، ليطمئنوا بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، وأنه لا مكان لليأس في رحاب الله، وبالتالي فلا داعي للتردِّي في مهاوي القنوط والبؤس. إنها الرحمة الواسعة الَّتي تسع كلَّ تائب عن المعصية، وإنها الدعوة للأوبة إلى الله، وإلى الثِّقة بعفوه، فالله رحيم بعباده وهو يعلم ضعفهم وعجزهم، ويعلم العوامل المسلَّطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه، ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كلَّ مرصد، ويتربَّص بهم الدوائر، ويعلم أن الإنسان مخلوق ضعيف سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الَّذي يربطه بالله، والعروة الَّتي تشدُّه إليه. فالله عليم بكنه هذا المخلوق وتكوينه؛ لذا يمدُّ له يد العون، ويوسع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصيته حتَّى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه، ويثبِّت خطاه على الصراط المستقيم.

فبعد أن يلج العبد باب المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طُرد وانتهى أمره، ولم يعد يُقبَل ولا يُستقبَل، في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة النَّديِّ اللطيف: {قُلْ ياعباديَ الَّذين أسرفوا على أنفسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رحمةِ الله إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيم}. أخرج أحمد وأبو يعلى والضياء عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «والَّذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتَّى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثمَّ استغفرتم لغُفر لكم، والَّذي نفس محمَّد بيده، لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثمَّ يستغفرون فيغفر لهم». فليس بين العبد وبين ربِّه حاجز مانع؛ فالتَّوبة تخترق السموات السبع لتصل إلى ربِّ العالمين فَيَمُنُّ بعفوه وغفرانه.

ومع ذلك فإن بعض المتعصِّبين المحجِّرين لرحابة عفو الله وكرمه، يدَّعون بأن الاستشهاد بهذه الآيات والأحاديث يشجِّع الناس على ارتكاب المزيد من الذنوب والآثام طمعاً بهذا العفو الإلهي. والواقع أن إبقاء العبد في محيط حسن الظنِّ بالله، أفضل بكثير من إيقاعه في اليأس، لأن حسن الظنِّ بالله يورث الإقبال على التَّوبة الصادقة في أيَّة لحظة، بينما يغلق اليأس الباب في وجه العاصي، وكأنه بذلك قد أصدر الحكم على نفسه بأنَّ مصيره جهنَّم لا محالة. لذلك فقد أتى الأنبياء الكرام مبشِّرين لا مُنفِّرين، ويتعيَّن على الداعي أيضاً أينما كان أن يكون مبشِّراً مؤلِّفاً للقلوب لا منفِّراً لها، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خرج النبي صلى الله عليه و سلم على رهط من أصحابه يضحكون فقال: والَّذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ثمَّ انصرف وبكى القوم، فأوحى الله إليه: يامحمَّد! لمَ تقنِّط عبادي؟ فرجع النبي صلى الله عليه و سلم وقال: أبشروا، وقرِّبوا، وسدِّدوا».

ذلك أن التَّوبة عندما تلامس شغاف قلب العبد فإنها تشدُّ عزيمته في طريق الصلاح والإصلاح، وتحثُّه على الالتزام بالطاعة بصدق وإخلاص، وتؤهِّل نفسه للتحلِّي بأحسن الأخلاق، واكتساب أفضل العلوم. روي في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة، وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله» (أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة في مصنفه).

وها هي دعوة أخرى توجِّهها الآية إلى الإنابة لله، والعودة إلى رحاب الطاعة وظلالها، دون مراسم أو حواجز، وبغير وسطاء أو شفعاء. إنه اتصال مباشر بين العبد والربِّ، بين المخلوق والخالق سبحانه، فَمَنْ أراد الأوبة من الشاردين فليَؤُبْ، ومن أراد الاستسلام لله فليستسلم، فالباب مفتوح، لا حاجب دونه ولا حسيب عليه.

فهلمُّوا عباد الله إلى التَّوبة قبل فوات الأوان، {وأَنِيْبُوا إلى ربِّكُمْ وأسْلِموا له من قبْلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ ثمَّ لا تُنصرون} واتَّبِعوا ما أمركم به ربُّكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة، وأنتم لا تعلمون به حتَّى يغشاكم. فالرجوع إلى الله، والالتزام بمبادئ شريعته يجنِّب الإنسان الوقوع في الخطأ، ويدفع عن نفسه الحسرة والألم، فتراه يقول: ياحسرتى وياندمي على تفريطي في طاعة الله وفي حقِّه، أو على سخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه وبالرسول وأولياء الله الصالحين.

سورة هود(11)

قال الله تعالى: {وياقوم استغفِروا ربَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه يُرْسِلِ السَّماءَ عليْكُم مِدْراراً ويَزِدْكُمْ قوَّةً إلى قوَّتِكُمْ ولا تَتَولَّوا مُجرمين(52)}

ومضات:

ـ كلَّما كان الاستغفار جادّاً والتَّوبة حقيقية، كلَّما انهمرت بركات السماء على الإنسان بأنواع وفيرة وأشكال مختلفة.

ـ الصلة بالله تعالى تولِّد قوى روحيَّة وجسديَّة تعين المرء على أداء دوره بنجاح على مسرح الحياة.

ـ إن انقطاع صلة الإنسان بخالقه يبقيه في محيط الجهل والانحطاط.

في رحاب الآيات:

هناك علاقة غير منظورة بين عمل الإنسان ورحمة السماء؛ وعمل المؤمن لا يقتصر على العبادة وأداء المناسك، بل يتَّسع ليشمل كل عمل مفيد يؤدِّيه لمجتمعه، ومهما بلغت حسناته واتَّسعت، فإن رحمة الله أوسع وأجلُّ وأعظم وهو محتاج إليها، والحسُّ الروحي الإيماني هو الأساس المعوَّل عليه للشعور بهذه الحاجة. وإن ممَّا لاشكَّ فيه أن القلوب الطاهرة الزكيَّة المزكَّاة، المستغفرة المنيبة، تشدُّ إليها العطاء الإلهي والخير والبركة من السماء، وهذا ما يزيد الإنسان قوَّة وينزله مكانة عالية، لاسيَّما إذا سخَّر هذا العطاء لمصلحة الكلِّ دون أنانية أو مطامع شخصية. وبذلك تتجلَّى لنا الأواصر المتينة بين القيم الإيمانيَّة والقيم الواقعيَّة في حياة البشر، واللُحمة بين طبيعة الكون ونواميسه الكليَّة والحقِّ الَّذي جاء به هذا الدِّين، وهذا ما يحتاج إلى جلاء وتوضيح، خاصَّة في نفوس الَّذين لم تصقل أرواحهم وتشِف، حتَّى ترى هذه العلاقة أو تستشعرها.

والآية الكريمة الَّتي نحن بصددها ترسي أسس الحياة السليمة على الأرض، فإذا أراد الإنسان أن يستزيد من الخير والنجاح والفلاح، في دنياه وآخرته، فعليه بالاستغفار المقرون بالتَّوبة النصوح، والندم على ما اقترف، ممَّا يؤهِّله لمحو خطاياه، ويقرِّبه من مولاه، ويفتح عليه أبواب خيرات الأرض والسماء. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتَّى رجع، فقيل له: ما رأيناك استقيت؟ قال: لقد طلبت المطر بمخاديج السماء الَّتي يُستنزل بها المطر، ثمَّ قرأ: {وياقومِ استغفروا ربَّكُمْ..}.

وهناك علاقة وثيقة بين الاستغفار والقوَّة، إذ أن القلب النظيف والعمل الصالح يزيدان المؤمن قوَّة وصحَّة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق، ويمنحانه راحة الضمير، وهدوء النفس، والاطمئنان إلى عدل الله، والثقة برحمته، ويزيدانه قوَّة ليعمل وينتج ويؤدِّي تكاليف الخلافة في الأرض، كما أن القلوب المستغفرة تتَّحد مع بعضها بعضاً في حبٍّ إيماني وصفاء ربَّاني يزيل الضغائن، وينمِّي أواصر التعاون والتباذل، ليصبح المجتمع قويّاً متماسكاً تجاه الشرِّ وأعوانه. وقد تتوافر القوَّة لمن لا يحكِّمون شريعة الله، ولكنها قوَّة آنيَّة سرعان ما تتحطَّم وتعود عليهم بالوبال والخسران، لأنها لا تستند إلى أساس متين من الإيمان والخير.

سورة يونس(10)

قال الله تعالى: {ولو يُعَجِّلُ الله للنَّاس الشَّرَّ استِعْجَالَهُم بالخيرِ لَقُضيَ إليهِمْ أجلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذين لا يرجونَ لقاءَنا في طغيانِهِمْ يعمهون(11)}

ومضات:

ـ الله رؤوف بعباده، رحيم بهم، لا يستجيب دعاءهم بالشرِّ على أنفسهم، أو أولادهم، أو أموالهم في حال الغضب؛ ولو فعل لقضوا نحبهم وهلكوا.

 

في رحاب الآيات:

هناك صور تتكرَّر في آيات القرآن الكريم، تكشف خفايا النفس الإنسانية، الَّتي لم تستكمل إيمانها الخالص بالله. فبعض الناس يريدون أن يمسكوا بزمام القضاء والقدر فيجعلوه يأتمر بأمرهم، ويغدق عليهم الخير متى أرادوا، ويتنزَّل بالشرِّ على أعدائهم متى شاؤوا، وكأنهم بذلك يتألَّهون على الله ويجعلون أنفسهم أصحاب القرار من دونه! ولكنَّهم بهذا التفكير المريض يتخبَّطون في دياجير الضلال والطغيان، ممَّا يجعلهم متسرِّعين في اتِّخاذ القرارات، فهم يستعجلون في طلب الخير، كما يستعجلون في طلب دفع الشر. وقد فُطر الإنسان على العجلة كما بيَّن القرآن الكريم ذلك حين قال تعالى: {خُلِقَ الإنسانُ من عَجَل..} (21 الأنبياء آية 37) وما استعجاله الخير إلا لشدَّة حرصه على المنافع، أمَّا استعجاله الضُّر فلقلَّة صبره على المحن والخطوب، وكثرة الانفعالات الَّتي تعتمل في صدره، كالغضب أو الجهل أو العناد أو غير ذلك. فقد يدعو الإنسان على نفسه أو ماله أو ولده حين الغضب أو اليأس، ولكنَّ لله جلَّ وعلا قوانينه الَّتي تغاير انفعالات البشر، فهو الحليم، المتجاوز عن السيِّئات، وهو الربُّ الرحيم الَّذي يعرف أين تكمن مصلحة عباده، ولو أنه استجاب لدعائهم لأهلكهم، لذلك يقول صلى الله عليه و سلم : «لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم» (رواه مسلم في صحيحه). والتعجيل في طلب الشرِّ من قبل الإنسان لم يقتصر على شؤونه الخاصَّة بل تعدَّاها إلى علاقته بأنبياء الله ورسله، فما إن يدعو رسولٌ قومه إلى الإيمان بالله، ويحذِّرهم من عاقبة تكذيبه، حتَّى يسخروا منه ويطلبوا تعجيل العقوبة الَّتي يتوعَّدهم بها، وقد سجَّل القرآن الكريم ذلك فقال تعالى: {ويقولونَ متى هذا الوعدُ إن كنتم صادقين} (67 الملك آية 25)، وقال أيضاً: {وإذ قالوا اللَّهمَّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندكَ فأمْطِر علينا حجارةً من السَّماءِ أو ائْتِنا بعذابٍ أليمٍ} (8 الأنفال آية 32) فهؤلاء لا يرجون لقاء الله، ولا يخافون وعيده، لذلك فإن الله يمهلهم ويتركهم يخوضون ويلعبون، وقد يغترُّون بحلم الله، ويحسبونه عاجزاً عن ردع مخالفاتهم، ولكنَّ إمهال الله إمَّا أن يكون استدراجاً لهم، أو رأفة بهم عسى أن يتنبَّهوا فينيبوا إلى الرحمن ويتوبوا، أو يخرج من أصلابهم من يوحِّد الله.

 

سورة النحل(16)

قال الله تعالى: {ولو يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عليها من دابَّةٍ ولكن يُؤخِّرُهُمْ إلى أجلٍ مسمىً فإذا جاءَ أجلُهُمْ لا يستئخِرُون ساعةً ولا يستقدِمُون(61)}

ومضات:

ـ الله حليم حكيم، لا يعجِّل عقابه للكافرين بنعمه ورسالاته، بل يمهلهم إلى أجل مسمَّى لا يتأخر لحظة واحدة عن موعده الَّذي يقرِّره جلَّ وعلا. وما تأخير الله إنزال عقابه إلا رحمة بالمقصِّرين عسى أن يستدركوا ويتوبوا.

في رحاب الآيات:

يختلف قانون العقوبات السماوي عن القانون الوضعي البشري بشموليَّته لحياة الإنسان الخاصَّة والعامَّة، وحتَّى بشموله لتفكيره ونواياه، وكلِّ كلمة تنبس بها شفتاه! كما أنه يختلف في توقيته لتنفيذ العقوبة. والإسلام لا يتهاون تجاه من يخطئ بحقِّ غيره، بل لقد شرع قوانين مشدَّدة رادعة بحق المخالفين من أجل بثِّ الطمأنينة داخل المجتمع الإنساني؛ فلا سرقة ولا خمرة، ولا زنا ولا ربا، ولا اعتداء بالقتل ولا بغيره. وكذلك حمى المحصنات من القذف، والأعراض من الهتك، ومنع شهادة الزور، وحذَّر من التلاعب بأرزاق العباد، أو احتكارها، أو الغشِّ فيها، وحثَّ على رعاية الفقير وعيادة المريض، ومساعدة الغريب وابن السبيل. ولكنْ هل استجاب الناس جميعاً لتعاليم الله؟. إن ما يرتكبه الناس من كفر بأنعم الله، ومن شرٍّ وفساد في الأرض، لهو نتيجة انحرافهم عن تعاليمه عزَّ وجل، ولو عجَّل بمؤاخذتهم لأهلكهم جميعاً.

ولكنَّ الله تعالى لا يؤاخذ المقصِّرين إلا بعد أن يعطيهم فسحة من الوقت، فإذا قصَّروا في أمورهم التعبديَّة، أو بحقِّ أنفسهم، أو بحقِّ غيرهم، منحهم مهلة عساهم يعودون إلى جادَّة الصواب، ويعوِّضون ما فاتهم ويصلحون ما أفسدوا؛ فإن أصرُّوا على الذنوب واستكبروا أوقع بهم عقابه في الزمان والمكان اللَّذَيْن يختارهما.

والتأخير يكون على أنواع: فقد يؤخِّرهم أفراداً إلى أجلهم الفردي كلٌّ بحسب تماديه وفحشه، وقد يؤخِّرهم جماعات إلى أجلهم في الخلافة المقدَّرة لهم، إلى أن يسلِّموها إلى جيل آخر، وقد يؤخِّرهم جنساً إلى أجلهم المحدَّد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة الكبرى، ويفسح لهم الفرصة علَّهم يحسنون صنعاً، فإذا حلَّ ذلك الأجل فإن الله يجازي المكلَّفين بما عملوا من خير أو شر، لا يخفى عليه من أمرهم شيء، دقَّ أو جلَّ، ظهر أو استتر.

وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنه ما من إنسان إلا ويصدر منه ما يستوجب المؤاخذة، ولكنَّ الله تعالى بفضله ورحمته يمهل ثمَّ يؤاخذ من كان مصرّاً على عناده وتقصيره، ويعفو عمَّن تاب وأناب، تأكيداً لحلمه وسعة صبره، فإن رحمته قد سبقت غضبه، وهو يمهل العبد لكنَّه لا يهمله؛ بل يأخذه بالعذاب في أجله المحدَّد، فلكل أمَّة أجل ولكل أجل كتاب.

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {قُلْ هوَ القَادِرُ على أن يَبْعَثَ عليكُمْ عذاباً من فَوْقِكُمْ أو من تحتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيْقَ بعضَكُمْ بأسَ بعضٍ انظرْ كيف نُصرِّفُ الآياتِ لعلَّهم يفقهون(65)}

ومضات:

ـ بعد أن يتأكَّد الإنسان من عظمة الخالق عزَّ وجل وقدرته، عليه أن يستوعب التعاليم الإلهيَّة الَّتي يجب أن يلتزم بها، والَّتي وضعها الله تعالى لمصلحة الإنسان وسعادته، وأيُّ تقصير في تنفيذ هذه التعاليم يؤدِّي إلى خلل في المجتمع الإنساني، فإذا كثر التمادي والتخريب كان لابدَّ من العقوبات الإلهيَّة لإصلاح هذا الخلل.

في رحاب الآيات:

بيَّن الله سبحانه وتعالى خطَّ المسيرة لآدم وذرِّيته، منذ أَمَرَهُ بالهبوط إلى الأرض، وهو أن يتَّبعوا منهج الله فقال: {قُلنَا اهبِطُوا منها جميعاً فإمَّا يأتِيَنَّكُمْ منِّي هُدىً فمن تَبِعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهِمْ ولا همْ يحزنون} (2 البقرة آية 38) إذن في حال الالتزام أمنٌ وسرور، وفي حال المخالفة خوفٌ وحزن.

وأوَّل نموذج للمخالفة هو مخالفة آدم عليه السَّلام، حين أكل هو وزوجه من الشجرة فبدت لهما سوآتهما، (والسوأة هي العورة، والعورة هي ما لا يحبُّ الإنسان المؤمن كشفه على الآخرين إمَّا لأنه مخجل أو لأنه مخزي)، وأيُّ عورة في المجتمع إذا بحثتَ عن أسبابها، وجدتَ أنها حدثت بسبب مخالفة مبدأ من مبادئ الله في الأرض. والله ليس بعاجز عن تأديب المخالفين والمقصِّرين، المتهاونين بشريعته، والأمثلة في تاريخ الإنسانية كثيرة، وقد أورد القرآن الكريم جانباً منها، فمن هؤلاء من انصبَّ عليهم العذاب من فوقهم، كالرجم بالحجارة والطوفان، والصيحة، والريح، كما فُعل بعاد وثمود وأقوام شعيب ولوط ونوح عليهم السَّلام. ومنهم من فاجأهم العذاب من تحت أرجلهم، كالخسف والزلزال، والرجفة، والبركان، كما فُعل بقارون، وأصحاب مَدْيَن.

ومنهم من يُسلِّط الله عليه عذاباً أشدَّ وأقسى هو العذاب النفسي، حيث يعيش الإنسان المخالف في دوَّامة، يفترسه الألم، وينهشه الحزن، ولا يعرف سبيلاً للخلاص. وقد يُسلِّط الله بعض المنحرفين على بعض، فكم من ظالم يتمادى في ظلمه، أو طاغية يستبدُّ بطغيانه، ويستمتع بخيرات الآخرين مستعيناً بالحديد والنار لِكَمِّ أفواه المعارضين، وكم من دول تسلَّطت على أخرى ونهبت ثرواتها وتركتها تعاني شظف العيش والحرمان. وقد يجعل الله المنحرفين فِرَقاً متناحرة، متحاربة، أهواؤهم شتَّى، ومذاهبهم مختلفة وغير ذلك.

وتصوير الآية للعذاب بأنه يأتيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فيه من الرعب والإثارة ما فيه، فهو عذاب عامٌّ، شامل، غامر، يحيق بصاحبه، ولا يدع له مجالاً للحركة أو الهرب، ولو كان العذاب يأتيهم فقط عن يمين أو عن شمال لكان وقعه أخف، إذ بوسع المخالف أن يجد ملاذاً في الأرض يحميه، أو ركناً من أركانها يؤويه، ولكنَّه عذاب يُصبُّ عليه صبّاً، أو ينبع من تحت قدميه نبعاً، فلا يدع له مجالاً لأيَّة حركة.

فيا أيُّها الإنسان! تأمَّل بعين بصيرتك كيف تَرِدُ الآيات والدلائل بطرق مختلفة، منها عن طريق العقل، ومنها عن طريق علم الغيب، لعلَّك تفقه الحقَّ، وتدرك الحقائق بأسبابها وعللها والَّتي تفضي إلى الاعتبار والعمل بما يرضي الله.

سورة النساء(4)

قال الله تعالى: {ما يفعَلُ الله بِعَذابِكُمْ إن شَكرتُمْ وآمنتُمْ وكان الله شاكِراً عليماً(147)}

ومضات:

ـ قد يكون مفهوم العذاب بالنسبة لبعض المنحرفين يحمل معنى اللذَّة بتعذيب الآخرين إرضاءً لشهوة الانتقام، أو بسبب عقدة نفسية متأصِّلة في نفوسهم المريضة. أمَّا مفهوم التعذيب عند الله عزَّ وجل فهو غير ذلك تماماً، فحاشا لله سبحانه وتعالى أن يعذِّب الخلائق سروراً ومتعة بعذابهم، لأن عقابه للمذنبين في كثير من الأحوال رحمة بهم، ومعالجة روحية تخلِّص نفوسهم ممَّا علق بها من أدران الذنوب، وتوصلها في النهاية إلى الشفاء والراحة.

ـ يعتقد بعض الخلق خطأً أن تعذيب النفس وإرهاقها هو أحد الأبواب المقرِّبة إلى الله عزَّ وجل، إلا أن هذا مرفوض في شرائع الله تعالى، لأنها مبنية أساساً على موازين ثابتة من الحبِّ والعقلانية.

في رحاب الآيات:

خلق الله الإنسان ووهبه السمع والبصر، والعقل والقلب، ليستمتع بما في الوجود، وليشكر المنعم على نعمائه. ولكن الإنسان قد يضيع في زحمة الحياة، ويغرق في النعيم المادي، وينسى النعيم الروحي الَّذي لا يتحقَّق إلا بالاتصال بربِّه، وشكره والعمل على مرضاته. وقد يؤدِّي به هذا النسيان للتردِّي في حمأة الرذيلة فيكفر بنعم الله، ويسيء إلى مخلوقاته. من هنا رتَّب الله تعالى عقوبات رادعة لأمثال هؤلاء العصاة، بهدف إحقاق الحقِّ، وإقامة ميزان العدل في الأرض لا رغبةً في الانتقام، أو أخذاً بثأر، أو تشفِّياً، أو سعياً لمغنم أو دفعاً لمغرم، تنزَّه الله وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. وإنما هو العقاب الزاجر والرادع عن المعاصي وأكل الحقوق، فلو أن الحياة كانت تجري بالإنسان من غير هذا الرادع، المتمثِّل بالعقاب الدنيوي أو الأخروي، أو كليهما معاً، لرأينا المجتمع الإنساني أشبه بالغابة، يأكل كبيرُ وحوشها صغيرَها، ويهتك قويُّها حرمة ضعيفها. فكان لابدَّ من وجود العقاب على الإساءة والجحود، مقابل الثواب على الإحسان والشكر.

فليس سواءً مَنْ شَكَرَ نِعَمَ الله ووظَّف حواسَّه وقدراته في سبيل عبادته وخدمة مخلوقاته، ومن كفر بها وجحد وعطَّل هذه النعم وأساء استعمالها. فالشكر هو إدراك قيمة هذه النعم واستثمارها مع التعبير عن الامتنان لذلك، والكفر هو الجهل بها وتبديدها وإظهار الجحود والنكران لها، وقد ربطت الآية الكريمة الشكر مع الإيمان لأنه قرينه الملازم له، فالمؤمن يشكر الله على نعمه ويشكر العباد على إحسانهم إليه، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» (رواه أبو داود والترمذي)، والكافر يجحد نعم الله تعالى وإحسان الناس إليه.

ولا يقتصر واجب الشكر على الضعيف دون القوي، أو الفقير دون الغني، بل الناس كلهم في ذلك سواء، لأن الله تعالى هو القويُّ العزيز، مالك الملك، الغني عن عباده يشكر لهم إيمانهم وإخلاصهم وحسن عبادتهم، فكيف بالخلائق الضُّعفاء المغمورين بنعم الله؟.