آيات قرآنية

الفصل الثاني:

التَّسبيح

سورة الإسراء(17)

قال الله تعالى: {تُسبِّحُ له السَّمواتُ السَّبعُ والأرضُ وَمَن فيهنَّ وإنْ من شيءٍ إلاَّ يُسبِّحُ بحمدهِ ولكن لا تفقهونَ تَسبيحَهُم إنَّه كان حليماً غَفوراً(44)}

سورة النور(24)

وقال أيضاً: {ألم تَرَ أنَّ الله يُسَبِّحُ له منْ في السَّمواتِ والأرضِ والطَّيرُ صافَّاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَهُ والله عليمٌ بما يفعلون(41)}

سورة الروم(30)

وقال أيضاً: {فسبحانَ الله حينَ تُمسونَ وحينَ تُصبحونَ(17) وله الحمدُ في السَّمواتِ والأرضِ وَعَشِيّاً وحينَ تُظْهِرُون(18)}

ومضات:

ـ إن التَّسبيح والتَّحميد لله هما لغةُ العاشقين لله، وترجمان قلوبهم الَّتي تشهد جماله في إبداع خلقه وجميل صنعته؛ فتلهج بالثناء عليه حمداً وشكراً، وعرفاناً وتنزيهاً له سبحانه عمَّا لا يليق بكماله.

ـ لا تقتصر عبادة التَّسبيح على الإنسان؛ بل إن جميع الموجودات والعوالم، تتقرَّب إلى الله بهذه الصلة الروحية، وتستديم عليها، وتجد فيها حياتها واستمراريَّتها.

ـ إن في تســبيح العوالم لله، وقيام جميـع الكائنـات به ـ ما عقل منهـا وما لا يعقل ـ تعليماً وإرشـاداً للإنسان بأن يعترف بفضل الله عليه؛ فيشكر نعماءه ويسبِّح بحمده، لئلا تكون تلك المخلوقات الَّتي فضَّله الله عليها أكثر ذكراً لله، وأفضل منه شكراً وعرفاناً بعظيم فضله عليها.

ـ ينبغي على المؤمن أن يُكْثِرَ من التَّسبيح مع بداية كلِّ نهار، وعند إقبال كلِّ ليلة من ليالي عمره؛ وذلك لما في هذين الوقتين المتعاقبين من شهودٍ حسيٍّ لآثار القدرة الإلهية من جهة، وليبقى المؤمن دائم الصلة بربِّه من جهة أخرى.

 

في رحاب الآيات:

التَّسبيح تنزيهٌ لله تعالى عن كلِّ نقصٍ لا يليق بكمال ذاته وصفاته، ومعنىً من معاني تمجيد عظمته وقدسيته، وصورة من صور إفراده بالعبوديَّة والطاعة والمحبَّة.

وهذه الآيات الكريمة تصوِّر لنا مشهداً فريداً للكون تحت عرش الله، يتوجَّه بالتَّسبيح إليه (عزَّ وجل) منزِّهاً إيَّاه، ومقدِّساً لعظمته عن كلِّ ما لا يليق بذاته العليَّة. فما من ذرَّة فيه ولا حصاة ولا حبَّة إلا وتنبض بالحمد والتَّسبيح، وما من حجر أو شجر أو ورقة أو زهرة، أو نبتة أو ثمرة إلا وتلهج بذكره والثناء عليه. فالكون الكبير الواسع المدى كلُّه حركة وحياة، وكلُّ دابَّة فيه، وكلُّ سابحة في الماء أو طائرة في الهواء، وكلُّ ساكن ومتحرِّك في الأرض والسماء يسبِّحون الله ويتوجَّهون إليه، ويشهدون بوحدانيَّة ربوبيَّته وألوهيَّته، وكلٌّ يضرعُ بطريقته ولغته البعيدة عن الفهم البشري.

فالله جلَّ وعلا أثبت أن لكلِّ ذرَّة لساناً ناطقاً بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّنزيه لصانعه وبارئه، وحامداً له على ما أولاه من نعمه، وبهذا اللسان تنطق الأرض يوم القيامة، كما قال تعالى: {يومئذ تُحدِّثُ أخبارها} (99 الزلزلة آية 4) وبهذا اللسان تشهد أجزاء الإنسان يوم القيامة: {يومَ تَشْهدُ عَليِهِمْ ألسِنَتُهُمْ وأَيديهِمْ وَأَرجُلُهُمْ بمَا كَانُوا يَعْمَلْونْ} (24 النور آية 24).

وقد أثبتت الأبحاث العلميَّة وجود الحياة في كلِّ ذرَّات الوجود، وأن هذه الذرَّات مؤلَّفة من شوارد تعمل مع بعضها بعضاً، حسب الوظائف المنوطة بها، وكلُّها تعمل بأمر الله تعالى، حسب ما صمَّمه لها، من أجل استمرار الحياة في هذا الكون، وطالما أن فيها حياةً فمن البديهي أن تسبِّح الله تعالى الواحد القهَّار؛ يؤكد ذلك قوله تعالى: {ألم تَرَ أنَّ الله يُسَبِّحُ له منْ في السَّمواتِ والأرضِ والطَّيرُ صافَّاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَهُ والله عليمٌ بما يفعلون}.

ومن الملاحظ أن هذه الآية جاءت لتقرِّر حقيقة تسبيح الموجودات لله سبحانه، ولكنها قد سُبقت بصيغة استفهام تقريري تَكرَّر ورودها كثيراً في القرآن الكريم وهي {ألم تر} والحقيقة أن هذه الرؤية الَّتي يريد الله لعباده أن يشهدوا بها ما ذُكر بعدها؛ لا يقصد بها الرؤية الَّتي تُشاهد بعين البصر، ولكنَّها الَّتي تُدرك بعين البصيرة. وهي رؤيةٌ لا تتحقَّق إلا لمن طهُرت قلوبهم من نجاسات الغفلة وملوِّثات المعاصي، وغدت كالمرآة صفاءً ونقاءً، فانعكس عليها قبس من نور الله، فأبصر أهلها الحقائق، وسمعوا ما لا يسمعه غيرهم. وأمثال هؤلاء يتمكَّنون من إدراك حقيقة تسبيح الكائنات لله تعالى، بل إنهم ما إن يسبِّحون الله ويذكرونه حتَّى يُسبِّح ما في الكون بتسبيحهم، ويذكر بذكرهم، كما قال تعالى في شأن نبيِّه داود عليه السَّلام: {إنَّا سخَّرنا الجِبَال معه يُسبِّحنَ بالعَشيِّ والإشراق} (38 ص آية 18). وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).

فكلُّ مخلوق في السموات أو في الأرض قد علم صلاته وتسبيحه، وأرشده الله إلى طريقة معيَّنة، ومسلك خاص في عبادته. أخرج أحمد وابن مردويه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن نوحاً لما حضرته الوفاة قال لابْنَيْهِ: آمركما بسبحان الله وبحمده، فإنهما صلاة كلِّ شيء وبهما يرزق كلُّ شيء». وجاء في فضل التَّسبيح أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه : «ألا أخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ قلت: أخبرني يارسول الله، قال: إن أحبَّ الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده» (رواه مسلم والترمذي). ومعنى قولنا (سبحان الله): أي براءةً وتنزيهاً لله من كلِّ نقص. ومعنى قولنا (وبحمده): فهو شكر لله على نعمه واعتراف بها.

والمراد من قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون} الأمر بالتَّسبيح والتَّنزيه والحمد والصَّلاة له في جميع أوقات الليل والنهار. وقد أُمر المؤمن بالتَّسبيح في هذين الوقتين المتعاقبين، لأنهما آيتان حسِّيتان من آيات قدرة الله، وبإمكان المؤمن أن يشهدهما كلَّ يوم، فيستقبل نهاره بتنزيه الله عن جميع صفات النقص، ويصفه بجميع صفات الكمال، ويقرن تسبيحه هذا بالحمد والشكر على نعمائه سبحانه وتعالى، وكذلك يكون حاله عند إدبار النهار وإقبال الليل. وما الصلوات الخمس الَّتي يؤدِّيها المسلم في أوقات متعاقبة إلا بعض مظاهر التَّسبيح العملي لاشتمالها عليه وعلى الحمد أيضاً.

ولعل السبب في تخصيص الطير بالتَّسبيح، في الآية الكريمة، مع أنها تدخل في عموم المخلوقات الَّتي تسبِّح لله في السموات والأرض؛ هو لفت الأنظار إلى كمال القدرة الإلهية في صنعها، ولأن وقوف الأشياء الثقيلة في الجو أثناء الطيران حجَّة واضحة على عظيم قدرة الخالق المبدع. فسبحان الله وبحمده؛ هو المُنزَّه والمحمود من جميع أهل السموات والأرض، وفي كلِّ الأحوال والأماكن والأزمان، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى عمَّا يصفون.