آيات قرآنية

الفصل الرابع:

الصَّـوم

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا كُتِبَ عليكمُ الصِّيام كما كُتِبَ على الَّذين من قَبلكُم لعلَّكُم تَتَّقُون(183) أيَّاماً مَعدوداتٍ فمن كان منكُم مَرِيضاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أيَّامٍ أُخَرَ وعلى الَّذين يُطِيقُونَهُ فِديَةٌ طَعَامُ مِسْكينٍ فمن تَطَوَّعَ خَيراً فهو خَيرٌ لهُ وأن تَصُومُوا خَيرٌ لكُم إن كُنتُم تَعلَمُونَ(184) شَهرُ رَمَضَانَ الَّذي أُنزِلَ فيه القُرآنُ هُدىً للنَّاسِ وبَيِّناتٍ من الهُدى والفُرقانِ فمن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ ومن كان مَرِيضاً أو على سفرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بكُمُ العُسرَ ولِتُكمِلُوا العِدَّةَ ولتُكَبِّرُوا الله على ما هَدَاكُم وَلَعَلَّكُم تَشكُرُونَ(185)}

/ ومضات:

ـ يُعَدُّ الصَّوم من أقدم العبادات الإنسانية وأكثرها انتشاراً، وقد اختلفت أنواعه ومدَّته باختلاف الشرائع، وحسب أحوال المكلَّفين واستعداداتهم وظروفهم.

ـ إن فريضة الصَّوم مدرسة تربويَّة عظيمة، يدخلها المسلم مرةً كلَّ عام، فيتخرج منها نقيَّ الروح طاهر النفس، قويَّ الإرادة صحيح البدن.

ـ لقد اختار الله للمؤمنين الصَّوم في شهر رمضان دون غيره من الشهور؛ لأنه الشهر الَّذي أنزل فيه القرآن وسائر الكتب السماويَّة، الَّتي أُفيضت من خلالها هداية الرحمن على البشريَّة.

/ في رحاب الآيات:

تتعدَّد الوسائل الَّتي تسهم في بناء الشـخصية الإيمانية، وتتفاوت سلباً وإيجاباً، ومن أسرعها تأثيراً ونجاحاً، امتحان المرء نفسه للتعرُّف على مدى قدرته على الصبر والتحمُّل، ولقد أثبتت هذه الوسيلة فاعليتها من خلال التشريع الإلهي السماوي، الَّذي فرض على الناس بعض العبادات الَّتي تهدف لذلك، ومنها الصَّوم الَّذي تتحقَّق فيه هيمنة سلطان الروح على الجسد؛ فيعيش الإنسان مالكاً زمام أموره بنفسه، لا أسير ميوله الماديَّة البهيميَّة، كما يغرس فيه الأمانة والصدق مع الذَّات، فما من شيء يمنعه ـ لدى أدائه لهذه العبادة ـ من ممارسة المفطِّرات وتعاطيها غير اعتقاده بأن الله يراقبه ويطَّلع عليه. وقد جاء في الحديث القدسي: «كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصِّيام فإنه لي وأنا أجزي به» (أخرجه أحمد ومسلم والنَّسَائي).

ومعنى الصِّيام في الإسلام هو: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات، مع النيَّة على ذلك، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ولمَّا كان الامتناع عن ممارسة هذه الأمور المباحة ثقيلاً على النفس، يصعب عليها تقبُّله إن لم تكن مؤمنة وعاشقة لله؛ خاطب الله عباده بهذا النداء العذب: {ياأيُّها الَّذين آمنوا} قبل أن يلقي إليهم الأمر بالصِّيام، فخلع عليهم لقب المؤمنين تحريكاً لقلوبهم وشدّاً لعزائمهم، لأن الإيمان يقتضي الامتثال والطاعة، ثمَّ أتبع هذا النداء بالتكليف بعد أن شحذ نفوسهم، ودفعها لتنهض وتستجيب لأمره.

والصِّيام فريضة قديمة موجودة في الشرائع كافَّة، والغاية الأولى منه هي إعداد القلوب لتقوى الله وخشـيته، وإعداد النفوس لـكلِّ خير، ذلـك أن الصَّـائم يترك شــهواتـه ـ مع قدرته على اتِّباعها ـ امتثالاً لأمر الله، ومسارعة إلى مرضاته، وهذا من شأنه أن يورث خشية الله في القلب، وينمِّي ملكة المراقبة للذَّات، ويقظة الضمير. وقد فُرض الصَّوم على المسلمين في البداية ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ثمَّ نُسِخ ذلك بصوم شهر رمضان. وكان الصِّيام في بدء الإسلام اختياريّاً بالنسبة للصحيح المقيم، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كلِّ يوم مسكيناً، مع بيان أن الصِّيام أفضل من الإطعام. وبعدها أصبح صيام شهر رمضان فرضاً على الصحيح المقيم، على قاعدة التدرُّج في الأحكام، وأُبيح للمريض أن يفطر حفاظاً على صحَّته، وكذلك للمسافر منعاً للمشقَّة والضرر، بشرط أن يقضيا ما فاتهما عند القدرة. أمَّا إذا أفطر المؤمن لشيخوخةٍ أو ضعف وكان عاجزاً عن القضاء، فعليه فدية إطعام مسكين عن كلِّ يوم أفطره، وإن زاد على ذلك فهو خير له. ومن كان ذا عذر وأخذ بالعزيمة ولم يفطر فهو خير له، شريطة ألا يُجهد نفسه أو يُحمِّلها فوق طاقتها.

وقد ثبت طبيّاً أن الصِّيام يزيل الموادَّ المترسِّبة في الجسم، ويجفِّف الرطوبات الضارَّة، ويطهِّر الأمعاء من السموم الَّتي تحدثها البِطنة، ويذيب الشحوم ذات الخطورة الشديدة على القلب، وقد قال أحد أطباء الغرب عنه: [إنه جرَّاح ذهني، يشفي من العلل دون استعمال مشرط أو إراقة دم]. والصِّيام يقوِّي الإرادة، ويعوِّد النفس على الصبر والاحتمال، فيواجه الإنسان الحياة بشجاعة، وبقدر ما تقوى الإرادة يضعف سلطان العادة ويقوى سلطان العبادة، وبذلك تتاح الفرصة لهجر الكثير من العادات السيئة. والصِّيام يحقِّقُ نوعاً من المساواة بين الأغنياء والفقراء، ويفجِّر ينابيع الرحمة والعطف في قلوب الأغنياء، بعد أن يذوقوا معاناة مَن ضاقت بهم سبل الرزق، ممَّا يؤدِّي إلى حفز استعداداتهم لمواساتهم، فتتآلف القلوب، وتتلاشى الأحقاد، ويتآزر الجميع للنهوض بالمجتمع وتوفير الطمأنينة في أرجائه.

والصِّيام ليس مجرد إمساك عن المفطرات، وإنما هو هجرٌ لجميع المعاصي والسيئات فلا يحلُّ للصائم أن يتكلَّم إلاَّ حسناً، ولا يفعل إلاَّ جميلاً. قال صلى الله عليه وسلم : «الصِّيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، إني صائم» (أخرجه أحمد ومسلم والنَّسَائي). وبهذا يكون الصِّيام درساً عملياً في تعويد النفس على الفضائل، وحملها على الاتِّصاف بكلِّ ما هو حسن في جميع الحالات، وإلا فإنه سيتحوَّل إلى مجرَّد عمل شاقٍّ لا يحتوي أي مضمون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش» (أخرجه النَّسَائي وابن ماجه).

وقد اختار الله تعالى شهر رمضان من بين سائر الشهور فأنزل فيه القرآن الكريم، وهو الشهر الَّذي كانت الكتب السماوية تُنزَّل فيه على الأنبياء قال صلى الله عليه وسلم : «أُنْزِلَتْ صحف إبراهيم في أوَّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستٍّ مَضَيْنَ من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» (رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ) وقد أنزل الله القرآن الكريم، كغيره من الكتب السماوية، هدى لقلوب العباد الَّذين آمنوا به وصدَّقوه واتَّبعوه، وفيه دلائل واضحة، وبرامج عملية مسعدة لمن فهم آياته وتدبَّرها.

فَمَنْ أظلَّه شهر الصَّوم، وكان مقيماً في بلده، صحيحاً في جسمه، فعليه أن يصوم، أمّا في حالة المرض المؤدِّي إلى الضرر، أو زيادة العلَّة، أو تأخُّر الشِّفاء ففي ذلك حكمان:

1 ـ ألا يطيق المريض الصَّوم بحال من الأحوال، فالإفطار في حقِّه واجب.

2 ـ أن يقدر على الصَّوم مع وجود المشقَّة الَّتي قد ينجم عنها الضرر، فهذا يُرخَّص له بالإفطار، قال صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحبُّ أن تُؤتى رخصه كما يحبُّ أن تُؤتى عزائمه» (رواه البيهقي والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنه ) (الرخصة هي تسهيل الحكم على المكلَّف بسبب عذر حاصل).

والإفطار مشروط بالقضاء بعد زوال السبب أو بدفع الفدية بالنسبة لمن لا يتوقع زوال هذا السبب، وهذا تيسير وترغيب في أداء الفريضة، ومراعاة من الشارع جلَّ شأنه لأحوال الناس الصحيَّة والمعاشيَّة، وفيه توجيه للدعاة ليسلكوا بالناس سُبل التسهيل، وأن يتجافوا عن التشدُّد. فالداعي مع الإنسان كالطبيب مع المريض، همُّه بُرْؤُه وشفاؤه بأيسر السُّبُل وأخفِّ الكُلَفِ، وليس من الصواب ما يفعله بعض الناس في تحرِّي المشاقِّ وتكليف الناس بها. عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هَلَكَ المتنطِّعون» قالها ثلاثاً (رواه مسلم) (المتنطِّعون هم المتشـدِّدون في غير موضع التشديد)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدِّين يسر، ولن يشادَّ الدِّين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والرَّوْحة وشيء من الدُّلْجَة» (رواه البخاري) (الغدو هو الخروج صباحاً، والرَّواح هو العودة مساءً، والدُّلْجة هي سير الليل).

فالحمد لله على ما هدانا إليه من الحقِّ، والحمد لله على ما امتنَّ به علينا من الرُّخص، مراعاة لظروفنا وأحوالنا، بحيث نقوم بأداء الفرائض على أتمِّ وجه، حتَّى إذا ما صمنا شهر رمضان؛ الصِّيام الأمثل حقَّ لنا أن نستقبل العيد مهلِّلين مكبِّرين، الله أكبر الله أكبر.

من هذا كلِّه نستشفُّ أن:

1 ـ الصِّيام عبادة من شأنها تهذيب الروح، وتقوية الإرادة، وتدريب النفس على الطاعات ومخالفة الأهواء، كما أنها تطبيب للأجسام. وبما أن شرائع الله جميعاً قوامها الخير والإصلاح في كلِّ أمور الحياة، فقد كان الصِّيام ركناً أساسيّاً في كلٍّ منها.

2 ـ الصِّيام يولِّد شعوراً بالرَّقابة الذاتيَّة لدى المؤمن، وبالتالي إحساساً بمراقبة الله له، ممَّا يقوِّي الخشية والتَّقوى في نفسه.

3 ـ ليس الغرض من الصِّيام حرمان المؤمن من الملذَّات المباحة، بل هو اختبار لإرادته ومدى امتثاله لأوامر الله، وفرصة لإعطاء جسمه شيئاً من الراحة والتنظيف الداخلي.

4 ـ ما جعل الله في الدِّين من حرج، بل جعل لكلِّ ظرف حكماً يناسبه، تيسيراً لأمور العباد، ففرض على المؤمنين الصِّيام، واستثنى منهم من كان مريضاً؛ يمنعه مرضه ـ لزمنٍ مؤقت ـ عن الإمساك عن الطعام أو الشراب، وكذلك المسافر؛ حتَّى لا تتضاعف عليه المشقَّة والعناء، إلى أن يملك كلٌّ منهما القدرة على الصِّيام، فيصوم بدلاً عما أفطر.

5 ـ إن شريعة الله ذات قوانين منضبطة محكمة، فمن رُخِّصَ له في ظرف مؤقَّت، ثمَّ زال عنه ذلك الظرف، توجَّبت عليه العودة إلى ظلِّ تلك القوانين والالتزام بها. أمَّا أولئك الَّذين يملكون موانع دائمة؛ كالكِبَر في السنِّ أو المرض المزمن وما إلى ذلك، فقد جعل الله لهم مخرجاً، بأن أباح لهم أن يستبدلوا الصِّيام بدفع الفدية، وهي إطعام مسكين أكلتين مشبعتين، من الطعام الوسط، عن كلِّ يوم يفطرونه.

6 ـ قبل أن يصبح حكم الصِّيام في الإسلام إلزاميّاً كان اختياريّاً، وكان قد أوجب فدية على المفطر؛ وهي إطعام مسكين عن كلِّ يوم يفطره، مع ترغيبله بأن يصوم لما في ذلك من فوائد صحيَّة ونفسيَّة واجتماعيَّة وتعبُّدية.

7 ـ اختصَّ الله تعالى شهر رمضان، الَّذي هو شهر الصِّيام، بفضائل كثيرة من أهمِّها أنه أُنزِل فيه القرآن الكريم، والكتب السماوية الَّتي سبقته، وكلُّها تحمل الهداية والإرشاد للناس.

8 ـ بدء فريضة الصِّيام مرهون بإثبات ظهور هلال شهر رمضان، وتنتهي بإثبات ظهور هلال شهر شوال؛ وهذا الإثبات يتمُّ بالرؤية البصرية أو عن طريق الحسابات الفلكية الَّتي يقوم بها (قوم يعلمون)؛ بدليل قول الله تعالى: {هُو الّذي جَعلَ الشّمسَ ضيـاءً والقمرَ نوراً وقدّره منازل لتَعلموا عددَ السِنينَ والحسَابَ ماخلق الله ذلك إلا بالحقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لقومٍ يعلمون} (10 يونس آية 5)، وقوله أيضاً: {الشمسُ والقمرُ بِحُسبان} (55 الرحمن آية 5).

9 ـ عيد الفطر هو عيد الطائعين، الَّذين دخلوا امتحان رمضان ونجحوا فيه، فحقَّ لهم أن يفرحوا ويشكروا الله تعالى على ما وفَّقهم إليه من الهداية والإيمان، ويكبِّروه.