آيات قرآنية

الفصل الثاني:

الصَّلاة

الصَّلاة لغة: الدعاء، قال تعالى: {..وصلِّ عليهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لهم..} (9 التوبة آية 103) أي ادْعُ لهم. وهي شرعاً: أقوال وأفعال مخصوصة، مُفتَتَحة بالتكبير، مُختَتَمة بالتسليم. ودليل فرضيتها قائم بالقرآن والسنَّة والإجماع.

ففي القرآن قوله تعالى: {وما أُمِروا إلاَّ لِيعبُدوا الله مخلِصِيْنَ له الدِّينَ حُنَفَاءَ ويقيموا الصَّلاة ويُؤتوا الزَّكاة وذلك دين القيِّمة} (98 البينة آية 5) كما وردت في آيات كثيرة، منها: {..فأقيموا الصَّلاة وآتوا الزَّكَاةَ واعتصِمُوا بالله هوَ مولاكُمْ فَنِعْمَ المولى ونِعْمَ النَّصِير} (22 الحج آية 78).

وفي السنَّة: وردت أحاديث متعدِّدة، منها الحديث القدسي الَّذي رواه أبو داود في سننه عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى: إنِّي فرضت على أمَّتك خمس صلوات، وعَهِدت عندي عهداً أنَّه من جاء يحافظ عليهنَّ لوقتهنَّ أدخلته الجنَّة، ومن لم يحافظ عليهنَّ فلا عهد له عندي».

وأمَّا الإجماع: فقد أجْمَعَتِ الأمَّة على وجوب خمس صلوات في اليوم والليلة. وقد فُرِضَتِ الصَّلاة ليلة الإسراء قبل الهجرة بنحو خمس سنين، على المشهور بين أهل السيرة. وهي فرض عين على كلِّ مسلم بالغ عاقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الَّذي سأله عمَّا يجب عليه من الصَّلاة قال: «خمس صلوات في اليوم والليلة، قال الأعرابي: هل عليَّ غيرها؟ قال صلى الله عليه وسلم : لا إلا أن تَطَّوَّع» (رواه البخاري ومسلم)، فالصلوات المكتوبة خمس في اليوم والليلة، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها، ولا يجب غيرها إلا بنذر.

والصَّلاة هي أعظم فروض الإسلام بعد الشهادتين، لحديث جابر رضي الله عنه : «بين الرجل وبين الكفر ترك الصَّلاة» (رواه مسلم). وقد شُرعت الصَّلاة شكراً لنعم الله تعالى الَّتي لا تحصى، ولها فوائد دينية وتربوية على الصعيدين الفردي والاجتماعي. فَمِنْ فوائدها الدِّينية: عقد الصلة بين العبد وربِّه، بما فيها من لذَّة المناجاة للخالق العظيم، وإظهار العبوديَّة له سبحانه، وتفويض الأمر إليه، والتماس الأمن والسكينة والنجاة في رحابه. وهي طريق الفوز والفلاح، وتكفـير السـيئات والخطايا، قال تعـالى: {قد أفلحَ المؤمنون * الَّذين هُمْ في صلاتِهِم خاشعون} (23 المؤمنون آية 1ـ2)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفَّارة لما بينهنَّ، ما لم تُغْشَ الكبائر» (رواه مسلم والترمذي وغيرهما). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه مرفوعاً أنَّ رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا قام يصلِّي، أُتي بذنوبه فَوُضِعَتْ على رأسه أو على عاتقه، فكلَّما ركع أو سجد، تساقطت عنه» (رواه ابن حِبَّان في صحيحه).

ومن فوائدها الشخصية: ذكر الله تعالى والتقرُّب إليه: {..وأقِمِ الصَّلاة لِذكري} (20 طه آية 14)، وتقوية النفس والإرادة: {واستعينُوا بالصَّبْرِ والصَّلاة وإنَّها لَكَبيرَةٌ إلاَّ على الخاشعين} (2 البقرة آية 45)، والاعتزاز بالله تعالى دون غيره: {إياك نعبد وإياك نستعين} (1 الفاتحة آية 5)، والسُّمُو عن الدنيا ومظاهرها، والترفُّع عن مغرياتها وأهوائها. كما أن في الصَّلاة راحة نفسية عظيمة، وطمأنينة روحية فريدة، وبعداً عن الغفلة الَّتي تصرف الإنسان عن رسالته السامية في هذه الحياة، قال صلى الله عليه وسلم : «جُعِلَتْ قُرَّة عيني في الصَّلاة» (رواه أحمد والنسائي والحاكم والبيهقي عن أنس بن مالك) كما أن في أدائها راحة وملاذاً بالله، وخلاصاً من الهمِّ والحزن؛ كان عليه الصَّلاة والسَّلام «إذا حَزَبَهُ أمر (أي نزل به همٌّ أو غمٌّ) قال: أرحنا بها يابلال» (أي أذِّن لإقامتها يا بلال لنرتاح بها) (رواه أحمد وأبو داود). ومن فوائدها الشخصية أيضاً: تدريب النفس وتعويدها على حبِّ النظام والالتزام به في سائر الأعمال وشؤون الحياة، إذ تؤدَّى في أوقات منظَّمة، كما أنها تُعلِّم المرء خصال الحلم والأناة والسكينة والوقار، وتعوِّده على حصر الذهن في المفيد النافع، وتركيز التفكير في معاني آي القرآن وعظمة الله تعالى وَفِقْهِ الصَّلاة.

ومن فوائدها الاجتماعية: إقرار العقيدة الجامعة لأفراد المجتمع، وتماسكهم حولها، وتنمية روابط الانتماء للأمَّة، وتحقيق وحدة الفكر وتقوية الشعور بالجماعة الَّتي هي بمثابة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى. وفي صلاة الجماعة فوائد عميقة وكثيرة، من أهمِّها إعلان مظهر المساواة، وقوَّة الصفِّ الواحد، ووحدة الكلمة، والتدرُّب على الطاعة في القضايا العامَّة أو المشتركة باتِّباع الإمام فيما يرضي الله تعالى، والاتجاه نحو هدف واحد وغاية نبيلة سامية هي الفوز برضوانه عزَّ وجل. كما أن بها تعارف المسـلمين وتآلفهم، وتعاونهم على البرِّ والتَّقوى، وتغذية الاهتمام بأوضاعهم وأحوالهم العامَّة، ومساندة الضعيف والمريض والغائب عن أسرته وأولاده.

وإن إقامة الصَّلاة وأداءَها في المسجد تجعل منه مقرّاً لقاعدة أخويَّة متعاونة متآزرة، يُطبَّق من خلالها شعار الأخوَّة الإسلامية الَّذي جاء في قوله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً» (رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). والصَّلاة تُميِّز المسلم عن غيره، فتكون طريقاً للثقة به والاطمئنان إليه، وهي تبعث روح المحبَّة والمودَّة فيما بين الناس، قال صلى الله عليه وسلم : «من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم» (أخرجه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس رضي الله عنه ).

والصَّلاة لبُّ العبادة لما فيها من التذلُّل والتضرُّع لجلال الله، ولما تورث من راحة للنفس وسَكينة في القلب، والتحرُّر من كلِّ تبعيَّة إلا لله. أمَّا أوقاتها فهي من زوال الشمس (ميلها عن دائرة نصف النهار) إلى ظلمة الليل، ويشمل ذلك الصلوات الأربع: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. أمَّا صلاة الفجر فلها شأن خاص، وقد خصَّها الله بمزايا عديدة، لأنها الفريضة الَّتي تتجلَّى فيها محبَّة العبد لربِّه وامتثاله لأوامره، حيث يهجر فراشه وراحته لا يثنيه برد الشتاء عن النهوض، والمبادرة للوضوء بالماء مهما بلغت درجة برودته، بل على النقيض من ذلك يمنحه شعوراً بلذَّة الطاعة، ونشوة العبادة لأنه يتَّصل بخالقه، ويطلب منه الرحمة والرضوان، قال تعالى: {أقِمِ الصَّلاة لِدُلُوْكِ الشَّمسِ إلى غَسَقِ اللَّيلِ وقرآنَ الفجْرِ إنَّ قرآنَ الفجرِ كان مَشْهُوداً} (17 الإسراء آية 78) وقد اقترنت صلاة الفجر بقرآن الفجر لأن ملائكة الليل والنهار تجتمع في ذلك الوقت ويشهدونه جميعاً. روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وقرآنَ الفجرِ إنَّ قرآنَ الفجرِ كانَ مشهوداً} أنه قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار». كما أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «الملائكة يتعاقبون، ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثمَّ يعرج الَّذين باتوا فيكم، فيَسألهم ـ وهو أعلم ـ فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يصلُّون». وقد يكون المراد أن الإنسان يشهد في الفجر آثار القدرة، ومواطن الحكمة في خلق السموات والأرض، فهنالك الظلام الحالك الَّذي يزيله النور الساطع، وهناك اليقظة من النوم بعد الخمود، والتبدُّل الَّذي يشمل كلَّ ما في الوجود. وقراءة القرآن في الفجر حيث يكون الذهن صافياً، تُمَكِّن الإنسان من استيعاب معانيه فكريّاً، والارتشاف من أنواره روحيّاً، لذلك فقد كانت له مكانة مميَّزة وخاصَّة.

أمَّا صلاة الليل فهي تزرع في قلب المسلم الإرادة الفولاذية، وتسمو بروحه إلى معارج الحبِّ الإلهي، قال تعالى: {إنَّ ناشِئَةَ اللَّيلِ هيَ أشدُّ وَطأً وأَقْوَمُ قِيْلاً} (73 المزمل آية 6). ففي هذه الآية يدعو الله تعالى رسوله ليسبِّحه في صلاة الليل، لما فيها من عظيم الثواب، إذ أن العبادة في الليل أشقُّ على النفس، وأبعد عن الرِّياء، قال تعالى: {ومِنَ اللَّيـلِ فتهجَّدْ بـه نافِلـةً لك عسـى أن يبعثَـكَ ربُّـك مقاماً محموداً} (17 الإسراء آية 79) وفي الحديث الشريف: «من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوَّله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل» (رواه مسلم والترمذي عن جابر رضي الله عنه ). ولعل أجمل ساعات الوصال والاتصال بالحضرة الإلهية، هي ساعات الثلث الأخير من الليل، حيث تحلو المناجاة، وتنسكب العبرات عشقاً وشوقاً للواحد الغفَّار. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام، ثلاث عقد، يضرب على كلِّ عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلَّت عقدة، فإن توضَّأ انحلَّت عقدة، فإن صلَّى انحلَّت عقدة، فأصبح نشيطاً طيِّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان» (متفق عليه). وإن ليل القائم يتنوَّر بنور عبادته مثل وجهه، فقد سئل الحسن البصري: [ما لنا نرى وجوه قوم منوَّرة؟ فقال: خَـلَوْا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره]. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ من قِبَل الله تعالى بالصَّلاة والتهجُّد وتلاوة القرآن، ليُبعث المقام المحمود، وهو المصطفى المختار الَّذي كان يُمْضِي الليل واقفاً بين يدي الله تعالى، يناجيه ويدعوه ويتصل به، ويصلِّي له حتَّى تتورَّم قدماه، فإذا كانت حالة الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا، وهو الَّذي غَفَرَ الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فكيف بنا نحن المذنبين؟ أليس حَريٌ بنا أن نسلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونتبارى في تحصيل المزيد من الصلوات والنوافل والأذكار الَّتي تُزَكِّي لنا الفؤاد، وتُحْيِي منا الأرواح، وتزرع فينا الأمل بمرضاة الله وعفوه، فننال المنزلة الَّتي أعدَّها الله للمقرَّبين من عباده، ونحظى بالنعيم الَّذي أعدَّه لهم. فما أحوج المؤمنين لأن يسلكوا إلى الله مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيخلصوا العبادة والطاعة والتوجُّه إلى الله، ويدركوا أن العناء والتعب النفسي الَّذي يلاقونه في شؤون حياتهم، يزول ويتلاشى كلَّما سبَّحوا بحمد ربِّهم، واستمدُّوا من حضرته المدد والغوث، وفي هذا ما يجدِّد نشاطهم ويقوِّي هممهم لمتابعة العمل.

أمَّا عن إقامة الصَّلاة فإنها تقتضي اقتران التلاوة بتدبر مع التزام الخشوع القلبي، فإنْ أقيمت على هذا النحو من الأداء أفاضت على صاحبها نوراً وهداية، وكانت عنده بمثابة حصن متين يقيه شرور المنكرات والرذائل، مصداقاً لقوله تعالى: {اتلُ ما أُوحيَ إليك من الكتابِ وأقِمِ الصَّلاة إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكرِ ولَذِكْرُ الله أكبرُ وَالله يعلمُ ما تصنعون} (29 العنكبوت آية 45).

وليس المهمُّ أن نصلِّي فحسب، بل المهمُّ والأهمُّ أن تكون صلاتنا مقبولة عند الله تعالى، وأوَّل الشروط الَّتي ينبغي على المصلِّي أن يلتزمها لضمان قبول صلاته؛ هو الإقامة الَّتي أرادها الله، والَّتي تعني الأداء الكامل التام ظاهراً وباطناً. فمتى خشع القلب وأخبت لربِّه وعلم أنه ماثل بين يديه، خشعت الجوارح والأركان. ولهذا فلابدَّ من الطمأنينة بين كلِّ حركة وأخرى من حركات الصَّلاة، وفي هذا ورد في الأثر: [أسوأ الناس الَّذي يسرق من صلاته]، وهذه السرقة هي عدم إتمام الوقوف والركوع والسجود والقعود بنشاط تام، فإذا خلت الصَّلاة من صدق التوجُّه إلى الله كانت صلاة صوريَّة شكليَّة، ولا تتجلَّى في المصلِّي آثارها في حسن الخُلُقِ والبعد عن المعصية، ولهذا نجد بعض المصلِّين لا يتورَّعون عن ارتكاب الذنوب، والقيام بالمنكرات دون خجل أو حياء، وهؤلاء الَّذين قال صلى الله عليه وسلم في حقِّهم: «من لم تَنْهَهُ صلاته عن المعاصي لم يزدد بها إلا بُعداً» (أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ). وهذا الصنف من الناس كان ولا يزال يسيء إلى سمعة المسلمين، ويعطي المثل السيء عنهم، وينفِّر غير المصلين من الصَّلاة، بسبب التناقض الجليِّ بين سلوكهم وتصرُّفاتهم، وبين وصفهم مصلِّين وذاكرين لله تعالى.

وقد صرَّحت الآية الكريمة بأن الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكيف لا ينتهي عن ذلك هؤلاء المصلُّون! ذلك أن للصلاة مظهراً خارجياً، وجوهراً وحقيقة، فحركات الصَّلاة من قيام وقعود وسجود هي مظهر الصَّلاة وهذا ظاهر العبادة، وهذه الحركات يؤدِّيها سائر المصلِّين، أمَّا الوصول إلى جوهر الصَّلاة، فهذا من عمل القلب لا الجوارح، إلا أنه لا يمكن إدراكه بالعين المجرَّدة، كما لا يمكن أن نحكم على مستوى صلاة المصلِّي إلا بمقدار ما تنعكس آثار هذه الصَّلاة في أعماله وتصرُّفاته. فالمصلِّي المرتكب للفواحش، لا حظَّ له من صلاته إلا القيام والقعود، بخلاف المصلِّي الورع الَّذي تنعكس آثار الصَّلاة وخيراتها في مطلق أعماله وتصرُّفاته، وتهيمن عليه في حالتي الرضا والسخط والعطاء والمنع؛ فيكون من عداد المصلِّين الَّذين استثناهم الله تعالى، بخروجهم عن الأوصاف الملازمة للإنسان الخام، الَّذي لم يدخل مدرسة الصَّلاة وذلك في قوله جلَّ من قائل: {إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إذا مسَّهُ الشَّرُّ جَزوعاً * وإذا مسَّهُ الخيرُ مَنُوعاً * إلاَّ المصلِّين * الَّذين هم على صلاتِهِم دائمون} (70 المعارج آية 19ـ23). وهذا مايؤكِّده رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه « ليس كلُّ مصلٍٍّ يصلِّي، إنما أتقـبَّل الصَّلاة ممَّن تواضع لعظمتي، وكفَّ شهواته عن محارمي، ولم يصرَّ على معصيتي، وآوى الغريب، كلُّ ذلك لي …» (رواه الديلمي عن حارثه بن وهب)

إن ذكر الله تعالى هو أُسُّ العبادات، وبه نصل إلى حقيقة الصَّلاة، وجوهر الصَّلاة يعيدنا إلى دائرة الذكر لتكون بذلك حلقة متكاملة بالله، من الله وإلى الله. قال أحد العلماء العارفين: [إن في الصَّلاة ثلاث خصال: الإخلاص والخشية وذكر الله؛ فالإخلاص يقود العبد إلى المعروف، والخشية تنهاه عن المنكر، وذكر الله ـ القرآن ـ يأمره وينهاه، فكلُّ صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة]. والذكر النافع ما تحقَّق فيه جمع القلب على الله وتفرغه مـمَّا سواه، ذلك لأن صلة القلب المستمرَّة بالله، والذكر الدائم له، يتركان في الإنسان أعظم الأثر، وينقلانه من حال إلى حال، ويزوِّدانه بالقوَّة والثبات على التزام ما تلاه من القرآن الكريم في صلاته خير التزام. ومن ذكَر الله ذكره الله، وذِكْرُ الله للعبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وهذا من ثمار ذكر العبد ربَّه، قال تعالى: {فاذكُروني أَذكُركم..} (2 البقرة آية 152).

وعندما تعترض المؤمن ظروف طارئة أو أوقات عصيبة لا يستطيع أن يؤدِّي فيها الصَّلاة بشكلها الأصلي؛ يُرخَّص له أن يؤدِّي هذا الفرض على الكيفية الَّتي تتلاءم مع ظرفه ووضعه رفعاً للحرج، وحرصاً على أدائها في وقتها. ومن هذه الرُّخص: القَصْر والجمع، تقديماً أو تأخيراً، والصَّلاة راكباً أو راجلاً، قائماً أو قاعداً أو مضَّجعاً، وذلك وفقاً للظرف الَّذي يطرأ على المكلَّف، من سفر أو مرض أوغيرها من الظروف والأحوال، الَّتي لا تُسقِط هذه الفريضة ووجوب أدائها عليه. والحكمة من هذا التشريع أن يبقى المؤمن على صلة دائمة بالله وبذكره، قبل الصَّلاة وبعدها وخلالها؛ لأن الذكر وظيفة روحيَّة، يستطيع المرء ممارستها أثناء قيامه بواجباته الحياتيَّة، وفي جميع الأحوال، ومن شأنه أن يصل قلبه بالله تعالى، ليستمدَّ من أنوار قدسه إيماناً يَظْهَرُ أثره في تصرُّفاته وأعماله، ويعينه على مجاهدة نفسه، ويعطيه القوَّة لخدمة مجتمعه، قال تعالى: {فإذا قَضيتُمُ الصَّلاة فاذكُروا الله قِياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِكم فإذا اطمأننتُم فأقيموا الصَّلاة إنَّ الصَّلاة كانت على المؤمنينَ كتاباً موقوتاً} (4 النساء آية 103).

والصَّلاة فرض مقيَّد بأوقات محدَّدة، لا يجوز تأخيرها أو الغفلة عنها، بل لابدَّ من المحافظة عليها للفوز برضى الرحمن؛ فهي مدرسة يدخلها المؤمن خمس مرات في اليوم ليزداد بها تعلُّماً وتفقُّهاً وحبّاً لله، كما أنها ضابطٌ روحي يُبقي للنفس جلاءها ونقاءها، وللجسد نظافته في الوضوء المستمر لإقامتها، قال صلى الله عليه وسلم : «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كلَّ يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنَّ الخطايا» (رواه الطبراني).

وترك الصَّلاة يسـتوجب العقـاب الإلهي بدليل قوله تعالى: {ما سَلَكَكُم في سَقَرَ * قالوا لم نَكُ من المصلِّين} (74 المدثر آية 42ـ43) وقوله أيضاً: {فويلٌ للمصلِّين * الَّذين هم عن صلاتِهِم سَاهون} (107 الماعون آية 4ـ5)، وقال صلى الله عليه وسلم : «من ترك الصَّلاة متعمِّداً، فقد برئت منه ذِمَّة الله ورسوله» (رواه أحمد).