آيات قرآنية

الفصل التاسع:

الناسـخ والمنسـوخ

سورة البقرة (2)

قال الله تعالى: {ما نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَو نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَو مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير(106)}

سورة النحل (16)

وقال أيضاً: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهم لا يَعْلَمُون(101)}

ومضات:

ـ إن الله تعالى هو الُمُشرِّع الحكيم، وقد اقتضت حكمته، التدرُّج في بعض الأحكام، وتعديلها بما يتناسب مع استعداد البشر، وزيادة تقبُّلهم للأفضل منها، وعنده تعالى أمُّ الكتاب يمحو ما يشاء ويثبت لحكمة عالية، قد يدركها البشر وقد تغيب عنهم.

ـ إنَّ في تغيُّرِ بعض الأحكام بِتغيُّر الأزمان، وتطورها، دليل على روح التطور والتجديد الموجودة في التشريع الإسلامي من جهة، وتنبيه للدعاة أن يبتعدوا عن الجمود والتزمُّت، ممَّا يُجمِّد رقيَّ المؤمن في عالم الحضارة والتجدُّد من جهة ثانية.

ـ إنَّ في نسخ بعض الأحكام مع بقاء الآيات المُشرِّعَة لها في القرآن، تعليم أو إيحاء من الله تعالى للدعاة لكي يسلكوا سبيل الحكمة والتدرُّج في طرح الأحكام وتنفيذها، وخاصَّة مع غير المسلمين، وفي ظروف تتماثل مع بدايات الدعوة، أو خلال مسيرتها.

في رحاب الآيات:

النسخ تعريفاً: هو إبطال الحكم المستفاد من نصٍّ سابقٍ بنصٍّ لاحقٍ. أو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي. وقد نزل التشريع القرآني على قلب النبي صلى الله عليه وسلممجزَّءاً بما يتناسب مع الأحداث والوقائع، متناولاً الكثير من عادات العرب الجاهلية المستحكمة... ومُتَّخذاً منها موقف المُتمهِّل المتريِّث، لأن التأنِّي مع التنظيم خيرٌ من العجلة مع الفوضى، وأنجح في التأثير على السلوك الإنساني وإصلاحه. ومن أجل ذلك كان التدرُّج في التشريع من أهم ميزات التشريع الإسلامي.

والحقيقة أن التدرُّج يشمل سنن الحياة كلّها؛ فالحليب في ضرع الأم يبدأ خفيفاً، وتزداد قوّته الغذائية وكثافته مع نموِّ الطفل، والمعلِّم يتعهَّد تلاميذه المبتدئين بأسهل المعلومات، ثمَّ يتدرَّج بهم حسب نضوجهم العقلي وسموِّهم الفكري. وكذلك الأمم تتقلَّب كما يتقلَّب الأفراد في أطوار شتَّى، فمن الحكمة في سياستها، وتشريعاتها، أن يُصاغ ويُختار لها ما يناسب حالها في الطور الَّذي تكون فيه، حتَّى إذا انتقلت منه إلى طور آخر لا يناسب ذلك التشريع الأوَّل، كان لازماً أن يوجد لها تشريع آخر يتَّفق وهذا الطور الجديد، وإلا لاختلَّ ما بين الحكمة والأحكام من الارتباط والإحكام.

فالله تعالى أنزل على نبيِّه في كلِّ حال ما يناسب الظروف الَّتي تحيط به وبالمؤمنين. ومن تأمَّل هذا الإبداع، والحكمة العظيمة في وجود النسخ في القرآن الكريم، اطمأنَّ إلى مناسبة التشريع الإلهي لكلِّ زمان ومكان. فالحكم المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، بينما الحكم الناسخ له يجيئ منوطاً بحكمة ومصلحة أخرى تتناسب مع الحال الجديد الَّذي أصبحوا عليه.

وقد روي عن ابن عباس ـ ترجمان القرآن ـ رضي الله عنه أنه كان يُفسِّر قوله تعالى: {يُؤتي الحكمة من يشاءُ ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً...} (2 البقرة أية 269) بأن المقصود بالحكمة، معرفة الناسخ والمنسوخ والحكمة منهما.

فعندما ندرس موضوع تحريم الخمر، ونعرف أن شرب الخمر كان مستحكماً بين عرب الجاهلية، وكان استئصال هذه العادة - دفعة واحدة - أمراً صعباً جداً، بل مستحيلاً، نجد عظمة الحكمة في التشريع القرآني عندما نزل تحريم الخمر بالتدريج، وعلى مراحل كانت نهايتها القضاء على هذه العادة المؤذية المستحكمة، وهذا ما شرحناه مفصَّلاً في فصل تحريم شرب الخمر وعقوبته. وهكذا فُرض الصوم بالتدريج، وحُرِّم الرِّبا على مراحل، كذلك جاء تعديل حكم المواريث منسجما مع اتساع دائرة الدخول في الإسلام من قبل فروع العائلة..

والسؤال الَّذي يُطرح كثيراً: ما هي الفائدة من بقاء الآيات المنسوخة الحُكم في المصحف تُقرأ وتُتلى مع أن حكمها منسوخ؟!. والجواب على هذا السؤال يتضح في عدَّة نقاط أهمها:

ـ إن بقاء هذه الآيات يُذكِّر المؤمنين بنعمة الله عليهم من حيث تكامل التشريع وبلوغه الأفضل والأكمل.

ـ كما أن في بقاء هذه الآيات إشارة إلى أنه على المؤمن أن يتحلَّى بأسلوب القرآن، ويتَّخذ من حكمة التدرُّج سبيلاً لدعوة الناس إلى الحقِّ وهدايتهم إليه.

ـ ولعل أهم سبب لبقاء هذه الآيات يتلوها المسلم في صلاته وعباداته، هو الإيحاء بأنه من الممكن تطبيق بعض هذه الأحكام المنسوخة، في بعض الأوقات الخاصَّة، إذا اقتضت حكمة الدعوة والتشريع ذلك، مع الاهتمام بالانتقال من هذا الحكم المنسوخ إلى الحكم الناسخ في السرعة الممكنة.. وهذا أفضل أسلوب لشدِّ قلوب الناس إلى الإسلام، بدل تصعيب الأمور عليهم، أو محاسبتهم الحساب العسير، ممَّا يُنفِّرهم ويُبعدهم عن الصراط المستقيم.