آيات قرآنية

الفصل السادس:

القـرآن والتصنيـع

سورة الحديد(57)

قال الله تعالى: {لقد أرسلنا رُسُلَنا بالبيِّناتِ وأنزلنا معهمُ الكتابَ والميزانَ ليقومَ النَّاسُ بالقِسْطِ وأنزلنا الحديدَ فيه بأْسٌ شديدٌ ومنافعُ للنَّاسِ وليَعْلَمَ الله من ينصُرُهُ ورسلَهُ بالغيبِ إنَّ الله قويٌّ عزيز(25)}

ومضات:

ـ أرسل الله تعالى رسله بالتعاليم البيِّنة الواضحة، للنهوض بالأمم ورقيِّها، وأنزل معهم الشرائع والطرائق، الَّتي تضبط أمور الناس بالدقَّة والنظام البالغين، على أسس من العدل والتَّوازن، ليأخذ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، ويسير ركب الحياة نحو الأفضل.

ـ حدَّدت الآية الكريمة مرتكزات الحضارة الإنسانية في العلم المقرون بالكتاب، وفي الحقِّ والعدل المقرونان بالقسط، وفي القوَّة المقترنة بالتصنيع، وجعل من هذه الأسس امتحاناً لمعرفة مدى نصرة من يلتزم بها لدين الله القائم على العلم والقوَّة والعدل.

ـ إن الله قويٌّ عزيز، وبالتالي فالمؤمنون المرتبطون بالله تعالى أقوياء به وأعزَّاء.

في رحاب الآيات:

إذا ثارت غريزة حُبِّ التملُّك عند الإنسان وطغت، دفعته للاستيلاء على كلِّ ما يحلو له، سواء بالحقِّ أم بالباطل، بالطرق السويَّة أو الملتوية، لذلك جاءت شرائع السماء بالعدل لتنظِّم الحقوق والواجبات، وليأخذ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه ويؤدِّي كلٌّ واجبه، مستندة بذلك إلى الميزان العقلي والفكري لتتعادل أمور الحياة، ولتستقيم شؤون الناس الخاصَّة والعامَّة، وليرتقوا نحو الأفضل باستثمار الامكانات المادية المتاحة لهم. فكلُّ الرسالات السماوية جاءت لتقرَّ في الأرض، ميزاناً ثابتاً، ترجع إليه البشرية، لتقويم الأعمال والأحداث والأشياء والناس، وتقيم عليه حياتها في مأمن من اضطراب الأهواء واختلاف الأمزجة، وتصادم المنافع والمصالح، ميزاناً لا يحابي أحداً لأنه يَزِنُ بالقسطاس الإلهي للجميع، ولا يحيف على أحد لأن الله رَبُّ الجميع؛ والميزان هو القانون والعدل والتَّوازن، الَّذي يُحْكَمُ به بين الناس في الأرض، وإلى ذلك تشير الآية في جزئها الأوَّل. أمَّا في جزئها الثاني فهي تشير إلى الحديد بقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد} دلالة على إرادة الله وتقديره في خلق الأشياء والأحداث، وقد خصَّ الله تعالى الحديد بالذِّكر لأنه رمز الصناعة، ومعيار قوَّة الأمم في الحرب والسلم، حتَّى إن الحضارة المعاصرة تكاد تكون قائمة على تصنيع الحديد ومشتقَّاته.

إن الربط بين تعاليم السماء، وحُسن الاتِّزان وإشاعة العدل من جهة، وبين الحديد من جهة أخرى، لم يأتِ في الآية عبثاً، فما كان لأُمَّة متفرقة يَقْهَرُ أفرادها بعضهم بعضاً، أن تحقِّق لنفسها النُّهوض الصناعي والتقدُّم الحضاري، ولو ملكت المواد الخام؛ لافتقارها إلى العلم والتفكُّر، والعمل الدؤوب المخلص، الممزوج بالتوادد والتَّراحم، فما كان لهذا العلم أن يربو في أجواء الحقد والغلِّ، والتشاحن والاستهتار.

ولقد خلق الله عزَّ وجل الحديد لترقى به الأمم في استعمالاته المدنية والعسكرية كافَّة، وليرى الله من يَقْدِرُ على نصرة دينه ورسله، باتِّباع تعاليمه، وتطبيقها بجديَّة وإخلاص، فكلُّ ما خلقه الله تعالى وسخَّره لنا، علينا أن نستفيد منه، وهذا هو المقصود من اتِّباع التعاليم الإلهية، فلا يقتصر الأمر على أداء العبادات الجسدية، بل إن كلَّ عمل ينفع المخلوقات يصبح عبادة. وبهذا نستمدُّ قوَّتنا من قوَّته تعالى، وعزَّتنا من عزَّته، فإن أصابنا الضعف والوهن، فبسبب خلل في علاقتنا مع حضرة الله، وبسبب سوءٍ في تطبيقنا لأوامره، المسعدة لنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا.

ولا يسعنا عند ذكر هذه الآية الكريمة إلا أن نقف بإجلال وإكبار لهذا الكتاب الخالد، الَّذي حوى معجزات لا تحصى، بل إن الله سبحانه أودع فيه معجزات لأهل كلِّ زمان، حتَّى تبقى حجَّة الله قائمة على العباد، بأن هذا الكتاب كتاب الله، وليـس كتاب غيره من المخلوقات.

لقد أثبت البحث العلمي، أن الحديد على الأرض، هو نتيجة اصطدام الشهب والنيازك بالأرض خلال الأحقاب الماضية، ولقد عبَّر القرآن عن ذلك بعبارة: {وأنزلنا الحديد}، ولم يقل خلقنا لكم الحديد، على أنه عندما تكلَّم عمَّا في الأرض، ذكر عبارة: {خلقَ لكم}، كما في قوله تعالى: {هو الَّذي خَلَقَ لكم ما في الأرضِ جميعاً..} (2 البقرة آية 29)، فلينظر الإنسان كيف جاء البحث العلمي موافقاً، لحقيقةٍ ذَكَرَها القرآن، من قبل أن يدركها العلماء بقرون عديدة.

ومن جهة أخرى فقد ذكر سبحانه أنه أنزل الحديد، فيه بأس شديد ومنافع للناس، أمَّا البأس الشديد، فهو إشارة إلى استخدامه في الصناعات الحربية، وعندما تعرَّض لذكر ذلك الاستخدام، أشار إلى السلاح الدفاعي، ولم يذكر السلاح الهجومي، تأكيداً على الروح السِّلمية لهذا الدِّين الخالد، فقال الله تعالى: {ولقد آتينا داودَ مِنَّا فضْلاً ياجبالُ أَوِّبي معَهُ والطَّيرَ وأَلَنَّا له الحديد * أنِ اعملْ سابغاتٍ وقدِّرْ في السَّرْدِ واعملوا صالحاً إنِّي بما تَعملون بصير} (34 سبأ آية 10ـ11) والسَّابغات هي الدُّروع الَّتي تقي لابسها شرَّ السلاح الهجومي الَّذي يستعمله الطرف المعادي. ولا نجد في القرآن إشارة إلى صنع السُّيوف أو الرِّماح وغيرها من أسباب القوَّة، إلا في إطار الاستعداد لما يُعِدُّه العدو للمسلمين، من قوَّة وشدة بأس، وهذا لا يخرج عن إطار الدفاع.

وأمَّا الاستعمال الآخر للمعادن، والَّذي ذكره الله سبحانه في معرض سرد بعض النعم، الَّتي أنعم بها على الإنسان، كي يلفت أنظار المسلمين إلى ما أودع في المعادن، كالقِطْر (وهو النُّحاس) من فوائد ومنافع يمكن استخدامها في الأغراض المدنية، فقال سبحانه عن سيِّدنا سليمان: {..وأسَلْنا له عينَ القِطْرِ ومنَ الجنِّ من يعملُ بين يديه بإذن ربِّه ومن يَزِغْ منهم عن أمرِنا نُذقْهُ من عذابِ السَّعير * يعملون له ما يشاءُ من محاريبَ وتماثيلَ وجِفانٍ كالجَوابِ وقدورٍ راسياتٍ اعملوا آل داودَ شُكراً وقليلٌ من عباديَ الشَّكور} (34 سبأ آية 12ـ13).