آيات قرآنية

الفصل الخامس:

الـقـرآن والعـلم

سورة العلق(96)

قال الله تعالى: {اقرأ باسمِ ربِّكَ الَّذي خلَق(1) خلَقَ الإنسانَ من علَق(2) اقرأ وربُّكَ الأكرم(3) الَّذي علَّمَ بالقلَم(4) علَّم الإنسانَ ما لم يعلم(5)}

ومضات:

ـ هذه الآيات هي أوَّل ما نزل من القرآن الكريم على رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم ، والملفت للانتباه أنها تأمره أوَّل ما تأمره بالقراءة. فماذا يعني أن تضمَّ الآيات الخمس الأولى ستَّ عبارات تتعلق بالقراءة والكتابة، والعلم والتعليم؟ إن هذه الآيات تشكِّل افتتاحيَّة وحي السماء، وهذا يعني أن أهمَّ ما جاء الإسلام لتحقيقه هو نشر العلم بكلِّ فروعه.

ـ ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ كتاباً ليقرأ سطوره لأنه كان أُميّاً، بل كان المطلوب قراءة ربَّانيَّة باسم الله الخالق العظيم، الَّذي خلق الإنسان من حوين صغير، يعلق في الرحم، بعد اتِّحاده بالبويضة.

ـ هذا الخالق العظيم، جعل من القلم أساساً للعلم، وبهذا القلم تعلَّم الإنسان كثيراً من المعارف، ومازال أمامه الكثير ليتعلَّمه.

في رحاب الآيات:

أوَّل أمر إلهي للإنسان الغارق في بحار الجهل والجاهلية، حمله إليه النبيُّ الأميُّ الكريم؛ {اقرأ} بكلِّ ما في هذه الكلمة من إيحاء إلى طَرْقِ أبواب العلم والمعرفة، ثمَّ أُتبعت هذه الدعوة إلى القراءة، بدعوة إلى أختها، وهي الكتابة بالقلم {الَّذي علَّمَ بالقلم} تنبيهاً وإشارة إلى أن حضارة الإسلام لن تُبنى إلا بالعلم، وعماد العلم البشري القراءة والكتابة.

والقراءة يجب أن تبدأ باسم الله، وكذلك كلُّ أمر، وكلُّ حركة، وكلُّ خطوة، وكلُّ عمل؛ فباسم الله نبدأ، وباسم الله نسير، وإلى الله نتَّجه وإليه تصير الأمور. فالقراءة عن الله وبالله هي العلم الحقيقي، وهي مفتاح ازدهار الحضارة الإيمانية، الحضارة الَّتي أثَّرت في الحضارات كلِّها، وأمدَّتها بجوهر العلوم ومفاتيح السعادة.

والله هو الَّذي خلق، وهو الَّذي علَّم، فمنه البدء والنشأة، ومنه التعليم والمعرفة. ونبدأ من صفات الله بالصفة الَّتي بها الخلق والبدء، فهو خالق الإنسان من تلك النطفة العالقة بالرحم، من ذلك المنشأ الصغير المهين التكوين، فتدلُّ على كرم الخالق فوق ما تدلُّ على قدرته، فمن كرمه رفع هذا العلق، إلى درجة الإنسان، الَّذي يُعلَّم فيتعلَّم. وهنا تبرز حقيقة التعليم، تعليم الربِّ للإنسان بالقلم، لأن القلم كان ومايزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان، ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الَّذي نلمسه الآن، ونعرفه في حياتنا المعاصرة، ولكنَّ الله سبحانه يعلم أهميَّة القلم، فيتَّخذ منه رمزاً في أوَّل سورة من سور القرآن الكريم نزولاً، هذا مع أن الرسول الَّذي حمل هذه الرسالة، لم يكن كاتباً بالقلم، وما كان محمَّد صلى الله عليه وسلم ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى، لوكان هو الَّذي يبتدع هذا القرآن، إلا أن الأمر كان وحياً جاءه برسالة سماوية صادرة من عند الله، فمنه يستمدُّ الإنسان كلَّ ما علم، وكلَّ ما يعلم من أسرار هذا الوجود، وأسرار نفسه، فالوحي من هناك، من ذلك المصدر العلوي المقدَّس الفريد.

فتبارك الله الأكرم، الَّذي علَّم الإنسان ما لم يعلم، فشرَّفه بالعلم على كثير ممَّن خلق، ورفعه به مقاماً عليّاً حين قال: {..يرفعِ الله الَّذين آمنوا منكم والَّذين أوتوا العِلمَ درجاتٍ..} (58 المجادلة آية 11). ومن الجدير بالذكر هنا أنه ليس المقصود بالعلم مجرَّدَ تحصيل العلوم الشرعية، وما يتصل بها، كما يفهم بعض الناس خطأً، بل هو مطلق العلم النافع في الدنيا والآخرة، والَّذي يهدي أهله لمعرفة قوانين الله تعالى فيما خلق وأوجد في هذا الكون، وتسخير ذلك لخدمة الإنسان ورفاهيَّته، ومن ثمَّ لتحضير المجتمع والسعي لرقيِّه وتمدُّنه. وهنالك أدلَّة كثيرة في كتاب الله تؤيِّد هذه الحقيقة وتدعمها، منها قوله تعالى: {إنَّ في خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ لآياتٍ لأولي الألباب * الَّذين يَذْكُرونَ الله قياماً وقعوداً وعلى جُنوبهم ويتفَكَّرونَ في خلْقِ السَّـمواتِ والأرضِ ربَّـنـا مـا خـلَقْت هذا باطلاً سـبحانَك فَقِنَا عذابَ النَّار} (3 آل عمران آية 190ـ191)، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بعد أن تلا هذه الآية: «ويلٌ لمن لاكها بين لَحْيَيْهِ فلم يتفكَّر فيها» (أخرجه عبد بن حميد وابن حاتم وابن حبان في صحيحه عن عطاء رضي الله عنه ).

ففي هذه الآية إيحاءٌ من الله تعالى، لكي ينمِّي المسلم قواه العقلية، بدراسة علم الفلك وطبقات الأرض، والجبال والأنهار، ومن ثمَّ تسخير هذه القوى الكبيرة لخدمة الإنسان، فكلُّ ما نراه من حضارة راقية، ومدنيَّة زاهرة، هي من نتاج العقل المفكِّر. والإسلام حين دعا إلى التفكُّر وحثَّ عليه، إنما أراد ذلك لتنمية نطاق العقل وتوسيع مداركه، فدعا إلى النظر فيما خلق الله، في السموات والأرض، وفي الإنسان نفسه، وفي الجماعات البشرية، لأن وظيفة العقل هي التأمُّل والتفكير ومن ثمَّ الإبداع، فإذا بطل عمل العقل توقَّف تطوُّر الحياة وتجمَّد. وقد أراد الإسلام للإنسان أن ينهض من سُباته، فعدَّ التفكير والتعلُّم من جوهر العبادة، وحارب التقليد الأعمى، الَّذي يمنع العقل من الانطلاق والبحث، ويقف به عند حدود القديم المألوف، قال تعالى: {..إنَّا وَجَدْنا آباءَنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارِهم مُقتَدون * قال أَوَلو جِئْتُكُم بأهدى مِمَّا وَجَدْتُم عليه آباءكُم قالوا إنَّا بما أُرسِـلْتم بـه كـافرون * فـانتقمنا مِنْهُم فانْـظُر كيـف كـان عـاقِبةُ المكـذِّبـين} (43 الزخرف آية 23-25). ولولا يقظة العقل وتوجيه الله تعالى له، لما اهتدت البشرية إلى قوانين الحياة، وعِلل الوجود وسنن الله في الكون، ولبقيت كما خُلقت دون تطوُّر، ولكن العقل المستنير بنور العلم استطاع أن يستخرج من الأرض كنوزها، وأن يستنبت خيراتها، ويقرِّب المسافات البعيدة، ويكتشف القوانين في البرِّ والبحر والجو، لينفِّذ بذلك المهمَّة الَّتي كلَّفه الله بها، واستخلفه في الأرض من أجلها.

إن هذه الآيات في أوَّل سورة العلق، وفي غيرها من سور القرآن، تعكس موقف الإسلام من العلم، وإن الباحث يرى أن هذا الموقف مع دلالته الَّتي لا حدود لها، على موقف الإسلام من العلم والمعرفة، والتعليم ومحو الأميَّة بكلِّ أشكالها، فإنه قد دُعِّمَ في القرآن الكريم بمواقف أخرى وآيات تتلى؛ تَقْرَع سمع البشريَّة ليل نهار، كي تهجر الجهل والجهلاء والجاهليَّة، وتُقبل على العلم والعلماء والتعلم والتعليم، فهناك سورة من سور القرآن تدعى بسورة القلم، حيث أقسم الله تعالى في هذه السورة، بالدَّواة والقلم، وما يُسَطِّرُ العلماء بالقلم والحبر من العلوم والمعارف، فقال تعالى: {ن والقلمِ وما يَسْطُرون} (68 القلم آية 1). لقد أقسم الله تعالى بِنُون، والنون هي الدَّواة وعاء الحبر، وأقسم بالقلم وأقسم بما يسطرون، كلُّ ذلك من أجل لفت الأنظار إلى أهميَّة ما أقسم به، وحثِّ المسلمين على العناية بالقراءة والكتابة، وأدوات العلم والمعرفة، لتحصيل المعارف، والتخلِّي عن الجهل والجاهليَّة وجعلها من مخلَّفات الماضي.

كما أن كتاب الله صرَّح في آيات كثيرة، بلزوم العناية بالعلم، وعلى رأسها أَمْرُ الرسـول صلى الله عليه وسلم ، ومن ورائه أُمَّتُه، بأن يدعو ربَّه طالباً منه أن يزيده من العلم، فقال تعالى: {..وقل ربِّ زدني علماً} (20 طه آية 114).

كما نوَّه بقدر العلم والعلماء، فقال سبحانه: {أَمَّنْ هو قانتٌ آناءَ اللَّيلِ ساجداً وقائماً يَحذَرُ الآخرةَ ويَرجو رحمةَ ربِّهِ قلْ هل يستوي الَّذين يعلمونَ والَّذين لا يعلمونَ إنَّما يَتَذكَّرُ أولوا الألباب} (39 الزمر آية 9).

وجَعَلَ العلم وزيادة المعرفة سبباً من أسباب زرع مخافة الله وخشيته في النفوس، فقال تعالى: {ألم تَرَ أنَّ الله أنزلَ من السَّماء ماءً فأخرجنا به ثمراتٍ مُخْتلفاً ألوانُها ومن الجبالِ جُدَدٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانُها وغرابيبُ سُودٌ * ومن النَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ مُختلفٌ ألوانُهُ كذلك إنَّما يَخشى الله من عبادهِ العلماءُ إنَّ الله عزيزٌ غفور} (35 فاطر آية 27ـ28). (الجُدَدُ: هي الطرق المختلفة الألوان، والغرابيب: هي صخور متناهية السَّواد كالغربان)؛ فقد لفت الله الأنظار إلى عظمته في إنزال المطر من السماء، وكيف جعله سبباً لنموِّ النباتات والأشجار، وما تجود به من ثمار، وكيف خلق من الجبال صخوراً بيضاءَ وحمراءَ مختلفة الألوان، وسوداءَ قاتمة السَّواد، وخلق من الناس أجناساً، ومن الدوابِّ والأنعام أصنافاً، ثمَّ أَتْبع ذلك بقوله: إنما يخشـى الله مِنْ عِبـَادِهِ العلمـاءُ، أي الَّذين اطَّلعـوا ـ دراســة وتمحيصاً ـ على بديع خلقه ودقيق صنعه، أحقُّ وأحرى من غيرهم، بأن تنغرس في نفوسهم خشيةُ الله، وتملأ قلوبهم محبَّة الله ومهابته سبحانه.

فانظر كيف يوازن كتاب الله تعالى بين من يعلمون ومن لا يعلمون، ويصرِّح بأنه لا وجه للمقارنة بينهم، فهم لا يستوون مع بعضهم لا في الدنيا ولا في الدار الآخرة، ففي الدنيا؛ هم أهل الحَلِّ والعقد، وهم أصحاب الرأي والمشورة والدعوة إلى الحقِّ، والوقوف في وجه الجهل والجاهلية والخرافات والأوهام، وفي الدار الآخرة؛ لهم الدرجات العالية في أعلى الجنان.

ولقد كثرت آيات القرآن الكريم الَّتي توقظ العقل وجميع الحواسِّ والمشاعر، كي تتفتَّح وتعمل، ومن ثمَّ تتوصَّل إلى معرفة الله سبحانه، فلا يكاد القرآن الكريم يذكر بديع صنع الله، ولا يسرد جانباً من عظمة الكون، ودِقَّة صنعه وشدَّة إحكامه، وخضوعه لنظام عامٍّ يحكمه، لا يذكر القرآن شيئاً من ذلك وما أشبهه، إلا وَيُتْبِعُ هذا الذكر بقوله تعالى: {أفلا تذكَّرون} {أفلا تعقلون} {أفلا تبصرون} {أفلا تتفكَّرون} وأمثال هذه التعابير، الَّتي تُعتَبر يداً رحيمة لطيفة ناعمة، تلامس أحاسيس الإنسان النائم أو السادر عنها، لأن يستيقظ ويرى آثار صنع الله وإبداعه، وكلُّ ذلك دعوة إلى العلم والتعلُّم والمعرفة، ونبذ للأوهام والأضاليل، ففي قوله تعالى: {وفي الأرضِ آياتٌ للموقنين * وفي أنفسِكم أفلا تُبْصرون} (51 الذاريات آية 20ـ21) دعوة صريحة إلى دراسةِ بديعِ صنعِ الله في الأرض، وفي جسم الإنسان ووظائف أعضائه، وفي قوله تعالى: {قلِ انظروا ماذا في السَّمواتِ والأرض..} (10 يونس آية 101) دعوةٌ إلى دراسة ماذا في السموات وماذا في الأرض، وهناك آيات وآيات في كتاب الله، منها ما يدعو إلى النظر إجمالاً كما في الآيات السابقة، ومنها ما يدعو إلى البحث والدراسة والتمحيص تفصيلاً، كما في قوله تعالى: {أفلا يَنظرونَ إلى الإبلِ كيف خُلقت * وإلى السَّماءِ كيف رُفعت * وإلى الجبالِ كيف نُصبت * وإلى الأرضِ كيف سُطحت * فَذَكِّر إنَّما أنت مُذَكِّر * لستَ عليهم بمُسَيْطر} (88 الغاشية آية 17ـ22). وقد أمرنا الله في هذه الآيات أن ننظر أوَّلا إلى الإبل، ثمَّ أتبعها بالسماء وهي مرتفعة كارتفاع هَامَةِ الإبل، ثمَّ أتبعها بالجبال الَّتي يشابه منظرها منظر سنام الإبل وتكوير ظهرها، ثمَّ ختمها بالأرض كيف سطحت، كما هي خفُّ الإبل مسطحة.

إنَّ ما ذُكِر ما هو إلا جزء يسير ممَّا حواه كتاب الله تعالى، من دعوة إلى العلم والمعرفة، ونبذٍ للجهل والتخلُّف، ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، فلم تكن هذه الدَّعوة الإلهيَّة صرخةً في واد ولا نفخاً في الرماد، إنَّما أثمرت وآتت أُكُلَها في رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصَّةً، وفي المسلمين عامَّة؛ فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغِّب في العلم، ويدعو إليه، ويعتبر طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم، ويحذِّر من الجهل والجاهلية، ويَظهَر ذلك في أقواله وأفعاله:

أمَّا الأقوال: فسنسوق طائفة عطرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع وهي قليل من كثير: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم» (رواه ابن ماجه وغيره) وكلمة مسلم اسم جنس تشمل الرجل والمرأة على السَّواء. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من جاءه أجلُه وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النَّبيين إلا درجة النبوَّة» (رواه الطبراني في الأوسط). وعن واثِلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من طلب علماً فأدركه؛ كتب الله له كِفلين من الأجر، ومن طلب علماً فلم يدركه، كتب الله له كفلاً من الأجر» (رواه الطبراني في الكبير). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سبع يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علَّم علماً أو كرى نهراً (أي أزال ما به من موانع تمنع جري الماء وتعيقه) أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو ورَّث مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته» (رواه البزَّار وأبو نُعَيْم في الحُلْيَة).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة أن يتعلَّم المرء المسلم علماً ثمَّ يعلِّمه أخاه المسلم» (رواه ابن ماجه). وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العالم والمتعلِّم شريكان في الخير ولا خير في سائر الناس» (رواه ابن ماجه). وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من علَّم علماً فله أجر مَنْ عمل به لا ينقص من أجر العامل شيء» (رواه ابن ماجه). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يبعث الله العباد يوم القيامة ثمَّ يميِّز العلماء فيقول: يامعشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم لأعذِّبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم» (رواه الطبراني في الكبير).

وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم بالرحلة إلى طلب العلم، وحضَّ الناس على ذلك، عندما يحتاج طلب العلم إلى الهجرة من الوطن، واللَّحاق بالعلماء، كي يَعُبَّ المسلم من العلوم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال» (أخرجه ابن سعد في الطبقات والسيوطي في الدر المنثور). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنَّة» (رواه مسلم وغيره). وعن زِرِّ ابن حُبَيْش قال: أتيت صفوان بن عسَّال المُرَادي رضي الله عنه قال: ما جاء بك؟ قلت أنبُطُ العلم. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع» (رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم). وعن قَبِيصَةَ بن المخارق رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ياقبيصة ما جاء بك؟ قلت: كبرت سِنِّي ورقَّ عظمي، فأتيتك لتعلِّمني ما ينفعني الله تعالى به، فقال: ياقبيصة، ما مررتَ بحجرٍ ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لكَ» (رواه الإمام أحمد).

وفي الترغيب في حضور مجالس العلم ومصاحبة العلماء يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا مررتم برياض الجنَّة فارتعوا، قالوا: يارسول الله وما رياض الجنَّة؟ قال: مجالس العلم» (رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنه). وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن لقمان قال لابنه: يابني، عليك بمجالسة العلماء، واسمع كلام الحكماء؛ فإن الله ليحيي القلب الميِّت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر» (رواه الطبراني في الكبير).

ولم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بجعل المدينة جامعة يأوي إليها طلاب العلم، بل وسَّع هذه الدائرة لتشمل الجبال والوديان والأعراب في باديتهم، فكان بحقٍّ الثائر الأوَّل ضدَّ الجهل والتخلُّف، وإمام النهضة العلمية، في تاريخ البشريَّة جمعاء، وها هو ذا يطلب إلى قبيلة متعلِّمة أن تعلِّم قبيلة جاهلة، ويطلب إلى القبيلة الجاهلة، أن تأوي إلى دور العلم كي تتعلَّم، أو يَلْحَقَ الطرفين عذاب شديد في الدنيا قبل الآخرة، فقد حمَّل العالم مسؤولية التعليم، وحمَّل الجاهل مسؤولية الهجرة إلى المعلِّم، والبحث عنه والأخذ من علومه، إذ أن العلم والتعلُّم والتعليم إجباري في ظلال دين الله الخالد، فعن علقمة بن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جدِّه قال: «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيراً، ثمَّ قال: ما بال أقوام لا يُفقِّهون جيرانهم ولا يُعلِّمونهم ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم ولا ينهَوْنهم، وما بال أقوام لا يتعلَّمون من جيرانهم ولا يتفقَّهون ولا يتَّعظون؟ والله ليُعَلِّمَنَّ قوم جيرانهم ويُفقِّهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهَوْنهم، ولَيَتَعَلَّمَنَّ قوم من جيرانهم ويتفقَّهون ويتَّعظون أو لأعاجلنَّهم العقوبة ثمَّ نزل. فقال قوم: من ترونه عنى بهؤلاء؟ قالوا: الأشعريِّين هم قوم فقهاء، ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب؛ فبلغ ذلك الأشعريِّين، فأَتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يارسول الله ذكرت قوماً بخير وذكرتنا بشرٍ فما بالنا؟ فقال: ليُعلِّمنَّ قوم جيرانهم وليعظُنَّهم وليأمُرُنَّهم، وليتعلَّمنَّ قوم من جيرانهم ويتَّعظون ويتفقَّهون، أو لأعاجلنَّهم العقوبة في الدنيا، فقالوا يارسول الله! أنُفَطِّنُ غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم فأعادوا قولهم: أنفطِّن غيرنا؟ فقال ذلك أيضاً فقالوا أمهلنا سنة فأمهلهم سنة ليفقِّهوهم ويعلِّموهم ويعظوهم» (رواه الطبراني في الكبير). فأيّ نظام عالمي عاقب الجاهل - أو كاد - على كونه أمِّياً؛ تهاون في تعلُّم القراءة أو الكتابة بل جميع أنواع العلوم والحكمة، سوى الإسلام؟ وأيّ نظامٍ عالمي هدَّد العالِم بالعقوبة؛ إن كتم علمه، فلم ينفع به الناس سوى الإسلام؟

وأمَّا الأفعال: فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته كلَّها معلِّماً، وداعياً إلى نشر العلم والمعرفة وتعميم ذلك، بعد أن كان العلم في تلك الحقبة من الزمن حِكْراً على أقلِّية محدودة من الأشراف، وكانت أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله أوَّل خطوة على طريق تعميم العلم، وكان شعاره في ذلك: «ليس منِّي إلا عالم أو متعلِّم» (أخرجه ابن النجار والديلمي في الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنه ). لقد خطا الرسول صلى الله عليه وسلم بالأُمَّة الخطوة الأولى على هذه الطريق الطويلة، الَّتي اتَّخذت من شعار (العلم للجميع) مبدأً تسير عليه، وغاية تسعى للوصول إليها، فها هو ذا يأمر بتعليم الأطفال القراءة والكتابة، وها هو منذ الأيَّام الأولى لاستقراره في المدينة يأمر ببناء مساجد صغيرة في أحياء المدينة المختلفة، ويضع في كلٍّ منها قارئاً كاتباً، ويأمر الناس ـ كُلَّ الناس ـ أن يرسلوا أولادهم إلى تلك المدارس، الَّتي تعتبر بحقٍّ أوَّل مدارس ابتدائية رسمية عامَّة إلزاميَّة في التاريخ، فهو بحقٍّ صاحب السَّبْق في هذا الميدان، ولم يدع فرصة ولا مناسبة إلا واستغلَّها من أجل تحقيق هذا الهدف السامي والغاية النبيلة، فها هو ذا صلى الله عليه وسلم يأسر سبعين ممَّن عادَوْهُ بعد معركة بدر التي فرضوها عليه، ويفتدي الأسرى أنفُسَهم بدفع مبلغ من المال، لكن الَّذين يحسنون القراءة والكتابة، كان فداؤهم أن يعلِّم كلُّ واحد منهم، عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، فقد آثر التعليم على إجبارهم على دفع المال، مع شدَّة الحاجة إلى المال في ذلك الوقت، لأن التعليم يحقِّق جزءاً من الغاية الَّتي أُرْسِلَ من أجلها.

لقد كان من آثار هذا الموقف النبوي من العلم والمعرفة، أن نبغ أصحابه الكرام حتَّى وُصِفُوا بهذا الوصف؛ حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء. ولنأخذ نموذجاً من العلم النبوي الَّذي ظهر على لسان أحد صحابته الكرام، معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال: (تعلَّموا العلم، فإن تعلُّمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قُرْبَة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنارُ سُبُل أهل الجنَّة، وهو الأنيس في الوحشة، والصَّاحب في الغُربة، والمحدِّث في الخلوة، والدليل على السرَّاء والضرَّاء، والسلاح على الأعداء، والزَّيْن عند الأَخِلاَّء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تُقتَصُّ آثارهم، ويُقْتَدَى بفعالهم ويُنتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خَلَّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كلُّ رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامُّهُ، وسباع البرِّ وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظُّلَم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدَّرجات العُلى في الدنيا والآخرة، التفكُّرُ فيه يعدل الصِّيام، ومدارسته تعدل القيام، وهو إمام العمل والعمل تابعه، يُلهَمُهُ السُّعداء ويُحْرَمُهُ الأشقياء) (رواه ابن عبد البر النمري).

لقد قام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنشر رسالة العلم في ربوع الأرض كلِّها، وتتلمذ على أيديهم طائفة من خيار الناس، وانطلاقاً من هذا الهدي القرآني النبوي، راح المسلمون الأُول يتسابقون في مجالات العلم وميادينه المختلفة، فترجموا كتب الحضارة الإنسانية الَّتي سبقتهم واستفادوا من علومها وملكوا زمام المبادرة فيها، فكانوا أمناء على الحضارة الإنسانية، فقد حفظوها من الضَّياع، ولم يقفوا عند هذا الحد، بل أضافوا حقائق جديدة وعلوماً جديدة إلى ما ورثوه عَمَّنْ سبقهم، ولقد لمع في تاريخ الحضارة الإنسانية مئات الأسماء، كلُّهم يُعَدُّ من أساطين العلم في تاريخ البشرية؛ من أمثال الغزالي، وابن رشد، والفارابي، والحسن بن الهيثم، وابن خلدون، والخوارزمي، وابن سينا، وابن نفيس وغيرهم من علماء الطِّب والعلوم والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع والرياضيات والفلك وغيرها من العلوم.

إن آثار هؤلاء العظماء التاريخيين الَّذين لم يكونوا ليصلوا إلى ما وصلوا إليه، إلا بفضل الدافع الإسلامي القويِّ على العلم والبحث العلمي، الَّذي حملهم على بذل أعمارهم سعياً وراء الحقيقة العلمية، وبعد أن وصلوا إليها حفظوها في مخطوطاتهم النفيسة، الَّتي تُعَدُّ الآن من كنوز المكتبات العالمية من عربية وأجنبية. إن نظرة واحدة إلى ما تحويه مكتبات واشنطن ونيويورك ولندن وباريز وبرلين والقاهرة ودمشق وغيرها من عواصم العالم، ترينا الثروة العلميَّة العملاقة الَّتي حوتها هذه المؤلَّفات، كلُّ ذلك انطلاقاً من موقف القرآن الكريم، وموقف رسول الإنسانية محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام، من العلم والتعليم والمعرفة الإنسانية.

ولابدَّ من وقفة صريحة أمام الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الَّتي تتحدَّث عن العلم والعلماء.. فالمتحدِّث عن علوم الشريعة يستشهد بهذه الآيات والأحاديث.. والمتحدِّث عن العلوم الحياتيِّة يستشهد بهذه الآيات والأحاديث نفسها.. ومن هنا استطاع المغرضون أن ينسلُّوا إلى عقول بعض الناس، ليؤكِّدوا لهم بأن المقصود من جميع هذه الشواهد القرآنية والنبويَّة هو الدعوة إلى تحصيل العلوم الشرعيَّة فقط. ودليلهم على هذا الزعم هو تخلُّف المسلمين عن الحضارة الأوربية الَّتي ارتقت بسبب الثورة الصناعية الَّتي قام بها الأوربيون والمبنيَّة على العلوم التَّجريبيَّة، متَّهمين الاسـلام بأنه وقف حائلاً أمام مثل هذه الثورة، داعين المسلمين إلى اعتماد مبدأ العلمانيَّة الَّذي يعني تحييد دور الدِّين، أسوة بما فعله المسيحيون في البلدان الأوروبية، إبَّان ثورتهم على هيمنة الكنيسة وإعاقتها للتقدُّم العلمي في تلك البلدان، قبل عصر النهضة العلمية؛ وبالتالي على المسلمين التخلِّي عن الإسلام بدورهم، ليتمكَّنوا من اللحاق بركب الحضارة، دون الإشارة إلى أن الإسلام أو أيّاً من دعاته لم يقم بالدور السلبي نفسه الَّذي قامت به الكنيسة في أوربا، ضد التقدُّم العلمي للبشرية، بل كانت دعوة الإسلام إلى العلم دعوة واضحة وقويَّة، بلغت في بعض الأحاديث الشريفة مرتَّبة الفرض، كما يُستدلُّ من قوله صلى الله عليه وسلم «طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم» (رواه ابن ماجه وغيره)...

وواقع الأمر أن معظم مفكِّري الحضارة الأوربية، يخشـون على بلادهم من الإسلام، لأنهم يعرفون بأنه دين مفجِّر لجميع طاقات العقل والروح، وإلى أقصى الحدود.. بحيث سيعود بالمسلمين إلى دور الريادة كما كانوا، وبما كانوه سابقا، أي السبب في استيقاظ أوربة من سباتها العميق؛ الَّذي دفعتها الكنيسة إلى أحضانه.... وهذه بعض الشواهد الَّتي حفَّزت المسلمين الأوائل لسلوك المنهج العلمي، وتتبُّع طرائقه:

يقول سبحانه وتعالى في سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أنَّ الله أَنزلَ منَ السماءِ ماءً }، إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِن عبادهِ العلماءُ} (آية 27ـ28)... نجد أن المقصود هم علماء الطبيعة والحياة، بشكل خاص...

وفي قوله سبحانه وتعالى في سورة الذاريات: {وفي الأرضِ آياتٌ للمُوقِنين} (آية 20) نجدها دعوة لتقصِّي علوم طبقات الأرض (الجيولوجيا).. ثمَّ يتبع تعالى ذلك بقوله: {وفي أنفسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} (آية 22) لتكون دعوة للاستزادة والتوسع في علوم الطبِّ والتشريح؛ بل وفي علم النفس أيضا.

وفي قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {إنَّ في خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الليلِ والنهار لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَاب} (آية 190)، وكذلك في قوله تعالى في سورة يونس: {هوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِـنِينَ وَالحِسَاب مَا خَلَقَ الله ذلكَ إِلاَّ بِالحقِّ يُفصِّلُ الأياتِ لِقَومٍ يَعْلَمُون} (آية 5)، نجد في كلُّ ذلك نداء لعلماء الفلك؛ للمضيِّ قُدُماً في متابعة هذا العلم...

فإذا عُدْنا إلى قوله عزَّ وجل في سورة فاطر: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِن عبادهِ العلماءُ}، لتأكَّد لنا أن هؤلاء العلماء، هم علماء الشؤون الكونية والحياتية بالدرجة الأولى؛ لأنهم كلَّما بحثوا ودقَّقوا في خلق الله، تبيَّن لهم دقَّة صنعه وإعجازه عزَّ وجل... ممَّا يثير في قلوبهم نوازع الخوف والرهبة، من عظمة الخالق فيما خلق.

إن مفاتيح العلوم الحياتيَّة هي العقل والتفكُّر والبصر والتدبُّر، وهي الأدوات الَّتي على المسلم أن يستعلمها من المهد إلى اللحد، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا أتى عليَّ يومٌ لا أزداد فيه علماً يُقرِّبني إلى الله تعالى فلا بُورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم» (رواه ابن عدي والطبراني وأبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها). هذه العلوم الَّتي كلَّما اسـتزدت منها، كلَّما أعطتك المزيد عنها، وقد تنتهي أجيال دون أن ينتهوا من البحث فيها، حيث يأتي من بعدهم ورثة يتابعون البحث والاستقصاء ؛ وكأنِّي بهم وقد عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنَّة» (رواه الدارمي عن الحسن رضي الله عنه ). فبالله عليك؛ أيُّ علم نحيي به الإسلام، ونعطي الحماية للإسلام، وبه نعطي القوَّة للمسلمين سوى علوم الحياة المادية... وقد أكَّد هذه المقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «لا فقر أشدَّ من الجهل، ولا غنى أعودَ من العقل، ولا عبادةَ كالتفكُّر» (ورد في كنز العمال برقم 44135، عن أبي بكر بن كامل في معجمه، وابن النجار، مرويا عن الحارث بن علي). والجهل بالعلوم الحياتية هو الَّذي يوصل إلى الفقر طبعا، لأنها ـ أي العلوم الحياتية ـ سبب تكسُّب الإنسان وغناه، ولأنَّ العلوم الفقهية والتعبُّديَّة، ما كانت يوماً سبباً أو وسيلة للغنى المادي. وهذا ما نستخلصه من قول الله عزَّ وجل: {يرفع الله الَّذين آمنوا منكم والَّذين أوتوا العلم درجات} (58 المجادلة آية 11)، فالَّذين آمنوا هم على درجات وهذا من المنظور الشرعي، والَّذين أوتوا العلم هم أيضاً على درجات، وهم المعنيُّون بعلوم الكائنات والحياة ومختلف العلوم الأخرى.. علماً بأن جميع العلماء الَّذين سبق وعدَّدنا أسماءهم، جمعوا المجد من طرفيه؛ حيث كانوا فقهاءَ في الشريعة، علماءَ في الحياة، وحُقَّ لهم وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم : «العلماءُ مصابيحُ الأرضِ وخلفاءُ الأنبياءِ وورثتي وورثةُ الأنبياء» (رواه أبو يعلى عن علي كرَّم الله وجهه).

سورة الرحمن(55)

قال الله تعالى: {يامعشرَ الجنِّ والإنسِ إن استَطَعْتُم أن تنْفُذوا من أقطارِ السَّمواتِ والأرضِ فانْفُذوا لا تنفُذون إلاَّ بسلطانٍ(33)}

ومضات:

ـ القرآن الكريم، وهو خاتم الكتب السماوية، يترك آفاق العلم مفتوحة أمام العقل البشري، وكأنَّه يحثُّنا على التفكير بإمكانيَّة الصُّعود إلى أرجاء السَّماء، ولكن ضمن إمكانيَّات معيَّنة، لا بُدَّ من معرفتها للوصول إلى هذا الهدف.

في رحاب الآيات:

دأبَ بعض المفسِّرين في تفسير هذه الآية، على أنها أمر تعجيزي من الله عزَّ وجل، لمعشر الجنِّ والإنس على السَّواء، وإنذار لهم بأنهم لن يستطيعوا يوم القيامة، أن يخرجوا من جوانب السموات والأرض، هرباً من الحساب لأنه محيط بهم. إن تفسيرهم هذا مبني على ما توفَّر بين أيديهم من العلم والمعرفة آنذاك، إلا أن بعضهم الآخر ومنهم ابن عباس رضي الله عنه خرج عن قراءة السطور إلى تبيُّن ما وراءها فقال: معنى الآية هو: (إن استطعتم أن تعلموا ما في السَّموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان) ويتَّضح من هذا التفسير أن الإنسان يستطيع، إذا تسلَّح بسلطان العقل، والجهد المثمر والعمل الدؤوب، أن يصل إلى الذُّرى من العلم، ويحلَّ جزءاً من الرموز الَّتي أقام الله تعالى النُّظم الكونيَّة على أساسها، بإبداع وإعجاز بالغين. والحقيقة أن الله تعالى لم يقل بأننا لن نستطيع أن ننفذ بأي شكل من الأشكال، وما كان لأحد في عصرِ نزول القرآن، أن يتحدَّى مثل هذه المقولة، أو يتخيَّل إمكانيَّة حدوثها، إلا أنه جلَّ وعلا استعمل أسلوب الشرط {إنِ استَطَعْتُم} إيحاءً بأنه إذا تحقَّق الشرط، فإن هذا أمر جائز الحدوث، ولكن ضمن حدود طاقات الإنسان وقدراته.

وقد قدَّم الله تعالى الجِنَّ على الإنس في الخطاب، لأن الإنسان ظاهر العجز عن الطيران، بقواه الذاتية، فهو غير مهيَّأ للطيران، بينما الجنُّ يطيرون في الفضاء، ويتمتَّعون بقوى خارقة. وفي هذا التقديم تنبيه لهم أوَّلاً أنهم معنيُّون بالأمر قبل غيرهم، وثانياً أن قدراتهم وقواهم مقيَّدة بإرادة الله تعالى وقدرته، فهم لا يستطيعون عنها حِوَلاً، ولو أراد الله أن يمنعهم فإن أمره نافذ لا محالة. أمَّا الإنسان فإن له شأناً آخر، فهذه الآية تثير تساؤله وتفكيره في أمر لم يكن يخطر له على بال، بل وكان يُعَدُّ ضرباً من ضروب الخيال. ويفتح القرآن الكريم بذلك ـ وهو خاتم الكتب السماوية ـ آفاق المستقبل أمامه بحضِّه على الأخذ بالعلم، وهو يطرح إمكانيَّة الصعود إلى أرجاء السماء في قوله {فانفذوا}، لكنه يقيِّد ذلك بالحصول على إمكانات معيَّنة سمَّاها بالسُّلطان، ويترك للإنسان أمر البحث عنها ومعرفتها، من أجل تحقيق هذا الهدف. وبالفعل فإننا نرى الإنسان، وبِمَلكةِ العقل والتفكير الَّتي وهبه الله إيَّاها، وفضَّله بها على غيره، يبحث بِجِدِّيَّةٍ وتصميم عن السلطان، الَّذي يكون له أداة ووسيلة، يخترق بها حجب الفضاء، ويتعرَّف بواسطتها المزيدَ ممَّا خلق الله تعالى، ملبِّياً لندائه عزَّ وجل في قوله: {قلْ انظروا ماذا في السَّمواتِ والأرضِ..} (10 يونس آية 101). ولا تقتصر الدعوة في هذه الآية على استعمال العين، بل تتعدَّاها إلى البحث والتجربة والاكتشاف، لأنه لا يمكن للعين المجرَّدة أن تحيط ببصرها بسماء واحدة فما بالنا بسموات متعدِّدة. والغاية من هذه الدعوة الإلهيَّة، استثارة هِمَّة الإنسان واستنهاض عزيمته، ليرى ما خلق الله ويتفكَّر به تفكُّر التَّدبُّر والإمعان، ومن ثمَّ الإذعان عن رضا لمن بيده مقاليد السموات والأرض، بعد أن يرى بعينيه تناسق هذا الكون وروعته وكماله، ممَّا لا يدع مجالاً للشَّك في أنَّ لهذا الكون، المتناهي في الدِّقة، مبدعاً عظيم الخلق والإبداع، ومن ثمَّ ليستفيد من ذلك كلِّه في تقدُّمه ورقيِّه الحضاري.

إن أمَّة تؤمن بمثل هذا الكتاب وما فيه من توجيهات وتعاليم، جديرة بأن تملأ طباق الأرض علوماً، وهذا ما بدأه المسلمون الأُوَل، فقد أصبحوا بفضل هذا الدِّين وما يدعو إليه؛ غُرَّةً في جبين الدهر، ولكن ومع بالغ الأسف، مرَّ على المسلمين حينٌ من الدهر، اكتفَوْا فيه من القرآن الكريم بالتلاوة، من أجل الثواب والبركة، وغفلوا عما فيه من حثٍّ دائم على الأخذ بأسباب العلم والتصنيع والبناء. فأدركوا إسلام الآخرة وفاتهم إسلام الدنيا، مع أن المسلم مأمور أن يدعو ربَّه قائلاً: {..ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (2 البقرة آية 201) ونجده قدَّم إسلام الدنيا على إسلام الآخرة، حثّاً عليه وتنبيهاً إلى عدم تضييعه، وفي الوقت نفسه أدرك الأوربيون ذلك عندما جاؤوا إلى مدارس الحضارة الإسلامية، في العصور الوسطى متعلِّمين، وبدؤوا بتطبيق ما تعلَّموه فيها، بينما انصرف المسلمون إلى التَّناحُر والتَّباغُض، وانزلقوا في تُرَّهات الجهل والظلام، وراحوا في سبات عميق امتدَّ بهم عدَّة قرون. ولا يخفى أن استخلاف الله عزَّ وجل الإنسان على هذه الأرض، قائم على العلم، منذ أن علَّم آدم الأسماء كلَّها، وهذا أساس دعوة الإسلام الَّتي رعت عصارة الفكر البشري، وحضاراته المتعاقبة، منذ وُجد على هذه الأرض، وأعطته الفرصة لكي يتطوَّر بمرور الزمن. وهكذا فإن على الإنسان ألا يدَّخِر جهداً في مواصلة مسيرته العلمية، لمعرفة واستكشاف ما خلق الله له وسخَّره من أجله، لتتهيَّأ له فرص الاستفادة منه، وليُثبت جدارته بهذا العقل الَّذي من أولويَّات مهامِّه، التعلُّم والتعليم، ليُسهم في بناء الصرح الأخلاقي والحضاري، قال تعالى: {ألم تَرَوْا أنَّ الله سَخَّرَ لكم ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وأسْبَغَ عليكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطنَةً ومن النَّاسِ من يُجادِلُ في الله بغيرِ علْمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ مُنير} (31 لقمان آية 20).

سورة السجدة(32)

قال الله تعالى: {الله الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ وما بينَهُما في ستَّةِ أيَّامٍ ثمَّ استوى على العرشِ ما لكم من دونِه من وليٍّ ولا شفيعٍ أفلا تَتَذكَّرون(4) يُدبِّرُ الأمرَ من السَّماءِ إلى الأرضِ ثمَّ يَعْرُجُ إليه في يومٍ كان مقدارُهُ ألفَ سنةٍ ممَّا تَعُدُّون(5)}

سورة المعارج(70)

وقال أيضاً: {تعْرُجُ الملائكَةُ والرُّوحُ إليه في يومٍ كان مقدارُهُ خمسينَ ألف سنة(4)}

ومضات:

ـ من العبث بمكان أن نلجأ إلى قياس أبعاد هذا الكون بأرجائه الفسيحة بالوحدات القياسية المعهودة الَّتي تقاس بها أبعاد الكرة الأرضية، لذلك لجأ العلماء إلى ابتكار وحدة قياسية عملاقة هي السنة الضوئية، لحساب المسافات الكونية بشكل تقريبي، لمساعدة العقل البشري على إدراكها، ومع ذلك فإن مسألة إحصائها وحسابها بشكل دقيق لا تزال في حكم المستحيل لعِظَم هذا الخلق، فتبارك الله تعالى أعظم الخالقين. والسنة الضوئية هي المسافة الَّتي يقطعها الضوء بسرعته الَّتي تبلغ 300.000كم في الثانية، فإذا سار الضوء مدَّة سنة بهذه السرعة فالمسافة الَّتي يقطعها تُعَدُّ سنة ضوئية.

ـ إذا كان العقل البشري لا يزال قاصراً عن الإحاطة بالقياسات الكونية الَّتي تتعلق بالحياة الدنيا، فأنَّى له أن يتصوَّر حقيقة الزمان والمكان في عالم الآخرة، من هنا ينبغي على العقل أن يسلِّم بأن هناك فرقاً شاسعاً بين المقاييس الدنيويَّة والأخرويَّة، وأن هذا الأمر منطقي وطبيعي.

في رحاب الآيات:

إنه الله سبحانه وتعالى خلق كلَّ شيء فأبدع خلقه، وهذه هي بعض آثار أُلوهيَّته ودلائلها، نلمسها في صفحة الكون المنظور، وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود، وفي نشأة الإنسان وأطواره الَّتي ذكرها الله في كتابه المبين، والَّتي كشف العلم عن بعضها ومازال يبحث جادّاً للكشف عن المزيد منها!.

وهاهو ذا القرآن الكريم يلفت نظر الإنسان ليدقِّق في معالم الأرض أمامه، ويسعى جاهداً إلى كشف مجاهيل السماء ليتعرَّف من خلالها خالِقَهُ الَّذي أبدع كلَّ شيء، فالله وحده هو خالق السموات والأرض وما بينهما، وله وحده هذا الملكوت الهائل العظيم، الَّذي يقف الإنسان مبهوراً مدهوشاً أمام صنعته الجميلة، المنسَّقة الدقيقة التنظيم، والَّذي لا يرى فيه البصر ولا الحِسُّ ولا القلب موضعاً للنقص أو التناقض، ولا يذهب التكرار والأُلفة بجاذبيَّته المتجدِّدة العجيبة، ثمَّ هذه الخلائق المتعدِّدة الأنواع والأجناس، الخاضعة كلُّها لناموس واحد، المنسجمة كلُّها في نبض واحد، المتَّجهة كلُّها إلى مصدر واحد، تتلقَّى منه التوجيه والتدبير، وتتَّجه إليه بالطاعة والتسليم. لقد خلق الله هذه العوالم جميعها في ستة أيام، وهذه الأيام ليست من أيام الأرض الَّتي نعرفها، فأيام الأرض مقياس زمني ناشئ من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس، وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة. وقد كشف العلم النِّقاب عن نجوم تستغرق دورتها حول نفسها ما يعادل يومنا هذا آلاف المرات، وهذه الحقيقة تقرِّب إلى الذِّهن اختلاف المقاييس بين يوم الأرض ويوم السماء. وهكذا فإنه كلَّما تقدَّمت علوم الفضاء كلَّما ازدادت مصداقيَّة القرآن الكريم ظهوراً وتحقَّق إعجازه العلمي.

أمَّا حقيقة هذه الأيام الستة فعلمها عند الله، وهي من أيامه الَّتي يقول عنها: {..وإنَّ يوماً عند ربِّكَ كألفِ سنةٍ ممَّا تَعُدُّون} (22 الحج آية 47) فقد تكون ستة أطوار، مرَّت بها السموات والأرض وما بينهما، حتَّى انتهت إلى ما هي عليه، أو ستة مراحل في النشأة والتكوين، وهي على أيِّ حال شيء آخر غير الأيام الأرضية، والقصد من هذا التعبير الدلالة على التأنِّي في الأمور، تعليماً لنا وإرشاداً.

وبعد الخلق وتدبير الأمر استوى ربُّ العزَّة على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تشبيه ولا مُماثلة. والاستواء على العرش يؤكد استعلاءه على مخلوقاته كلِّهم، وتمكُّنه منهم، وقدرته عليهم، أمَّا العرش فلا سبيل إلى تصوُّره، ولا طائل من الوقوف عند لفظه، فهو من علم الله وحده ولا سبيل إلى معرفته، وفي ظلال هذا الاستعلاء المطلق، يستشعر الإنسان عظمة الخالق وضآلة المخلوق، وقوَّة الخالق وضعف المخلوق. وفي ظلِّ هذا الضعف البشري، والجلال الإلهي، لا يعقل أن يتَّخذ الإنسان العاقل وليّاً غير الله؛ يشمله برحمته وعنايته في أمور دنياه، ويغفر ذنوبه ويشفع له في مواقف الآخرة.

إن تذكُّر هذه الحقيقة من شأنه أن يَرُدَّ القلب إلى الإقرار بعظمة الله وقدرته على التدبير؛ وهل غير الخالق يستطيع أن يدَبِّر أمور خلقه؟ وتدبير الأمر هو النظر في عاقبته ليجيء محمود النتيجة، كاملاً، متوازناً. والله هو الَّذي يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض، ثمَّ يعرج إليه الرُّوح والملائكة في يومٍ يقول الله تعالى عنه: {تعْرُجُ الملائكَةُ والرُّوحُ إليه في يومٍ كان مقدارُهُ خمسينَ ألف سنة} حيث يصعد فيه الملائكة وجبريل عليهم السَّلام إلى مواضع لا يصل إليها الإنسان، إلا بقدرة الله سبحانه، والمراد من ذكر الخمسين ألف، شدُّ العقل والتفكير إلى قانون الأعداد الكبيرة، والإيحاء بعظمة المقام الإلهي الأقدس، والكناية عن شِدَّة سُمُوِّه ورفعته.

إن صعود الملائكة في هذا اليوم والمهامَّ الموكولة إليهم، لا ندري من أمرها شيئاً، وحسبنا أن نشعر من خلال هذا المشهد بأهميَّة يوم القيامة وغيره من أيام الله، فقد أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة: ما أطول هذا اليوم! فقال: والَّذي نفسي بيده إنه ليُخَفَّف على المؤمن حتَّى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصلِّيها في الدنيا».