آيات قرآنية

الفصل العاشر:

أضـواء على سـورة الفاتحـة

قال الله تعالى: {بسم الله الرَّحمن الرَّحيم(1) الحمدُ لله ربِّ العالمين(2) الرَّحمنِ الرَّحيم(3) مالكِ يَومِ الدِّين(4) إيَّاك نعبدُ وإيَّاك نستعين(5) إهدنا الصِّراطَ المستقيم(6) صراط الَّذين أنعمت عليهم غيرِ المغضوبِ عليهِم ولا الضَّالِّين(7)}

ومضات:

ـ إن استهلال سور القرآن الكريم ومنها الفاتحة، بالبسملة {بسم الله الرَّحمن الرَّحيم}، أدب من آداب تلاوة القرآن الكريم، وإشارة من الله تعالى لأهميَّتها، وإرشادٌ لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ أمر ذي بال لم يُبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» (رواه ابن ماجه وأبو داود) (أبتر: أي مقطوع عن الخير لا يحقِّق أغراضه). فالبسملة إذن مطلوبة من المؤمن قبل شروعه بأيِّ عمل لتُحقِّق معناها، (باسمك اللهمَّ أبدأ عملي)، وبهذا تجعله يخلص النيَّة، ويتوجَّه بقلبه وكيانه نحو النور الإلهي، فيراقب الله في كلِّ أمر من أمور دينه ودنياه، ممَّا يكفل صلته المستمرَّة به.

ـ اختصَّ الله تعالى البسملة بصفتين من صفاته، مشتقَّتين من الرحمة، هما الرحمن الرحيم، ليبيِّن لعباده أن ربوبيَّته ربوبيَّة حب وإحسان، وهذا ممَّا يبعث الطمأنينة والسكينة في قلب المؤمن ويهدِّئ من روعه.

ـ تشتمل الفاتحة على المقاصد الأساسية للقرآن الكريم كَكُلٍّ فهي:

أوَّلاً: تُعلِّم المؤمن الحمد والثناء على الله عزَّ وجل، بما هو أهله، على ما أنعم به وتفضَّل عليه، وعلى سائر المخلوقات.

ثانياً: فيها إقرار باتِّصاف الله تعالى بالصفات الَّتي لا غنى للإنسان الضعيف الخطَّاء عن فيضها، ومنها هاتان الصفتان {الرَّحمن الرَّحيم} فالرحمن عظيم الرحمة، والرحيم دائم الرحمة. كما أن لفظ الرحمن يدل على من تصدر عنه الرحمة، ولفظ الرحيم يدل على شمولية هذه الرحمة، وقد أوردهما الله تعالى بصيغ المبالغة دلالة على شموليَّتهما وسعتهما، قال تعالى: {..ورحمتي وسِعَتْ كُلَّ شيءٍ..} (7 الأعراف آية 156) فرحمته تعالى وسعت الكون كلَّه، فكيف بها لا تسع أخطاء الإنسان، وهفواته وزلاَّته، ما قلَّ منها وما كثر؟ فإذا أقلع عنها وتاب منها، وأناب إلى الله بصدق وعزيمة، غفرها الله تعالى له ولو كانت ملء قراب الأرض.

ثالثاً: فيها إعلان وبيان عن وحدانيَّة الله تعالى وربوبيَّته للعالمين، وتأكيد على أنه القادر القاهر المتصرِّف في الأكوان وسائر المخلوقات، والمالك للحساب والجزاء في يوم لا ينفع المرء فيه إلا عمله.

رابعاً: فيها تعليم المؤمن صدق التوجُّه الكلِّي الخالص لله تعالى بحسن التوكُّل عليه، والاستعانة به في كلِّ أمر، مع بذل أفضل جهد ممكن في تعاطي الأسباب بالشكل الوافي.

خامساً: فيها تذكير للإنسان بأنه معرَّض للضلال والضياع، وأنه قد يصيب وقد يخطئ، لأن عقله وإدراكه محدودان، فهو في حاجة مستمرة إلى الله عزَّ وجل، وعليه أن يلجأ إليه دائماً ليلهمه الصَّواب والثبات.

سادساً: تشير إلى وجود معارج السعداء ليسعى المؤمن للوصول إليها، وكذلك منازل الأشقياء ليجتهد في الابتعاد عنها والخلاص منها0

وبهذا كلِّه استحقَّت سورة الفاتحة أن تسمَّى بأمِّ الكتاب، والسبع المثاني، والشافية والكافية، والأساس والحمد، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد بن المعلَّى رضي الله عنه : «لأعلمنَّك سورة هي أعظم السور في القرآن، الحمد لله ربِّ العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الَّذي أوتِيتُهُ».

- في رحاب الآيات:

حين يستأنس المؤمن بالقرب من الله تبارك وتعالى، ويشعر أنه بمنأى عن وسوسة الشيطان، يستجمع شعوره ويتوجَّه إلى ربِّه بقلب نقي، وروح صافية، فيذكر اسمه مستعيناً به، راجياً منه السداد في أموره كافَّة، لأنه الربُّ المعبود، ذو الفضل والجود، عظيم الرحمة، متَّصل الإحسان، عمَّت رحمته كلَّ مخلوقاته، وكفلت أرزاقهم ومصالحهم.

والبسملة قبل الشروع بأي عمل، تُعَدُّ بالنسبة للمؤمن، كإبرة البوصلة الَّتي تعيِّن بدقَّة جهة المسير؛ ابتغاء مرضاة الله، فتتبلور نيَّته ويكون عمله تصديقاً لها.

وفي غمار هذا الفيض من القرب والرحمة يشعُّ قلب المؤمن بالإيمان، فيتحرَّك لسانه بالثناء على الله تعظيماً وتبجيلاً ومحبةً، وشكراً على آلائه الَّتي لا تُعَدُّ ولا تحصى، فهو السيد المربِّي، وهو مالك الملك المتصرِّف بشؤون ملكه، الواضع لقوانينه، وهو ربُّ العالمين جميعاً، عوالم الإنس والجن والملائكة، وبمعنى أوسع وأعم عوالم السموات والأرض، وهي جميعاً في قبضته يسيِّرها بحكمته، وهو مالك يوم الحساب ومالك الآخرة. فكلُّ ثناء جليل هو له، لأنه خالق الكائنات وملهمها ما يحقِّق الغاية منها، وإليه ترجع الأمور.

والحمد يحمل في طيَّاته معانيَ بالغة الأهمية، جاء في الحديث الشريف: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان» (أخرجه أحمد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ).

وقد وردت كلمة الحمد في القرآن الكريم، في آيات كثيرة؛ توضح ماهيَّتها ومنها:

1 ـ شموليَّة التسبيح والحمد: فكلُّ شيء في الكون يسبِّح بحمد الله، قال تعالى: {تُسبِّحُ له السَّمواتُ السَّبع والأرضُ ومن فيهِنَّ وإِنْ من شيءٍ إلاَّ يُسبِّحُ بحمدِهِ ولكن لا تفقهون تسبيحَهُم إنَّه كانَ حليماً غفوراً} (17 الإسراء آية 44).

2 ـ التواصل والاستمراريَّة: {وهوَ الله لا إله إلاَّ هوَ له الحمدُ في الأُولى والآخرةِ ولهُ الحُكمُ وإليه تُرجَعون} (28 القصص آية 70).

كذلك فقد بيَّنَتِ الآيات المواطن الَّتي يتعيَّن على المؤمن أن يحمد الله تعالى ويسبِّحه فيها ومنها:

1 ـ الحمد لله على نعمة الخلق: {الحمدُ لله الَّذي خَلَقَ السَّموات والأرضَ وجعلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ ثمَّ الَّذين كفروا بربِّهم يَعْدِلُون} (6 الأنعام آية 1).

2 ـ والحمد لله عند الفَرَجِ: {وقالوا الحمدُ لله الَّذي أَذْهَبَ عنَّا الحَزَنَ إنَّ ربَّنا لَغَفُورٌ شكور} (35 فاطر آية 34).

3 ـ والحمد لله طلباً لكشف الغمِّ وإذهاب الحزن: {ولقد نعلمُ أنَّكَ يضيقُ صدرُكَ بما يقولون * فسبِّح بحمدِ ربِّكَ وكُن من السَّاجدين} (15 الحجر آية 97ـ98).

4 ـ والحمد لله للاستعانة على البلاء بالصبر: {فاصبرْ على ما يقولونَ وسبِّحْ بحمدِ ربِّك قبلَ طلوعِ الشَّمسِ وقبلَ غروبِهَا ومِنْ آناءِ اللَّيلِ فسبِّحْ وأطرافَ النَّهارِ لعلَّكَ ترضى} (20 طه آية 130).

وفي الفاتحة يخبر الله تعالى عباده بأنه الرحمن الرحيم؛ ليشيع في نفوسهم الطمأنينة، مشيراً إلى أن الصلة الَّتي تربطهم به، هي صلة الرحمة والقرب، والرعاية الَّتي تفيض بالحنان والمودَّة، ممَّا يدفعهم لعمل ما يرضيه، بنفس هادئة، وصدر منشرح. وقد قدَّم الله عزَّ وجل الترغيب على الترهيب في تعريف عباده بذاته القدسيَّة؛ ليستثير في نفوسهم الحب والرضا، ويحثَّهم على ما ينقذهم في يوم الحساب، ذلك اليوم الَّذي يُحدِّد فيه مالك الملك، عاقبة كلِّ إنسان بناءً على ما قدَّمته يداه، وهذا أسلوب تربوي تهذيبي أمثل.

ولاشكَّ أن من أبسط مظاهر العدل أن يُحاسَبَ الإنسان ويُجازَى على عمله، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشر، والحساب والجزاء إن لم يُستَوْفَيا في الدنيا، فلابدَّ أنهما سيتحقَّقان في الآخرة، وإلا لكانت الحياة عبثاً لا يتلاءم مع عدل الله وحكمته.

فإذا تيقَّنَ الإنسان أنه لا ريب محاسَب، وأن الله القويَّ الجبَّار هو الَّذي سيحاسبه؛ سعى إلى الاستقامة في أموره ما استطاع، وحاول الترفُّع عن صغائر الذنوب واجتناب كبائرها، مطمئناً إلى عدالته تبارك وتعالى، فلا يبتئس إن أصابه ظلم من الخلق، لأنه واثق أن حقَّه سيردُّ إليه إن عاجلاً أو آجلاً.

وهذه الحقيقة هي الَّتي تفرِّق بين عبودية المرء للنزوات والأهواء، وبين عبوديته لله، والَّتي تتحقَّق بها الغاية الَّتي خُلق من أجلها، فإذا ما استقرَّ في عقل المؤمن وقلبه، وأيقن بأن الله مالك ليوم الحساب، وأدرك حبَّه وعنايته، وفضله ورحمته، وقوَّته وعدالته، توجَّه إليه بكلِّيته، قلباً وقالباً، وخصَّه بالعبادة الَّتي تعني الخضوع والخشوع والتسليم، إيماناً منه بأنَّ لله سلطاناً لا يُدرك العقل كنهه، لأنه أوسع من أن يحيط به الفكر، أو يرقى إليه الإدراك. والعبادة مقام عظيم يتشرَّف به العبد لانتسابه إلى حضرة الله الخالق، فيكون حراً كريماً في معتقده، لا سلطان لمخلوق عليه.

وبما أن الله تعالى قد بيَّن لعباده أنه المتفرِّد بالربوبية، فلا ينبغي لهم أن يشركوا في عبادته أحداً، ولا يُعَظِّموا ـ تعظيم المعبود ـ أحداً غيره، وحريٌّ بهم أن لا يستعينوا بمن هو دونه، إلا في حدود الأخذ بالأسباب، وأن لا يطلبوا المعونة لإنجاز أعمالهم وقطف الثمار المرجُوَّة إلا منه، وبهذا يكون معنى الاستعانة بالمخلوقين مرادفاً للمعنى الحقيقي للتوكُّل على الله، وهذا من كمال التَّوحيد.

فإذا كان الله ـ وحده ـ هو المعبود وهو المستعان، فقد تخلَّص الضمير البشري من عبء الظروف والأوضاع وذلِّ الأشخاص، كما تخلَّص من سيطرة الأوهام والخرافات، وعندها يستطيع التمييز بين التحرُّر المطلق من كلِّ عبودية لغير الله، وبين العبودية المطلقة لله تعالى، ويختار ما فيه خيره وسعادته في الأولى والآخرة.

إلا أنَّ الإنسان كثيراً ما يَضِلُّ طريقه في الحياة، ويجد نفسه بأمسِّ الحاجة إلى من يأخذ بيده، فيتوجَّه إليه عزَّ وجل بندائه مستغيثاً به، طالباً منه تصحيح مسيرته، وانتشاله من دوَّامة الضياع والتخبُّط في متاهات الشكِّ والحيرة الَّتي تعترض طريقه، فهو مفتقر إلى ربِّه في كلِّ لحظة ليثبِّته على الصراط المستقيم، والشرع القويم، ويرسِّخ أقدامه فيه، وما من أحدٍ أَوْلَى بالمخلوق من خالقه، الَّذي يدعوه فيستجيب له ويعطيه سؤله.

هذا الصراط هو الطريق الَّذي سلكه من رضي الله عنهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين. لذلك يتوجه العبد إلى ربِّه لِيَسْلُكَهُ في زمرة هؤلاء الأحباب، ويبعده عن زمرة أولئك المنحرفين الَّذين سلكوا طريق الشهوات؛ الَّذي يؤدِّي بهم إلى الانحراف والخزي، أو الَّذين علموا الحقَّ وعدلوا عنه، أو الَّذين قصَّروا في البحث عن حقيقة الإيمان، واتَّبَعوا سبل الضلالة والخسران.

وبعد الانتهاء من قراءة الفاتحة يرجو العبد من أعماق قلبه الاستجابة والقبول بقوله: آمين (أي اللهمَّ استجب) ومَنْ أَوْلى من الله تعالى بالاستجابة لعباده المؤمنين. ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين، فقولوا آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» (رواه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه). علماً بأن كلمة آمين ليست من اللغة العربية، ولا هي خاصَّة بالإسلام وحده، وإنما استعملها سائر أتباع الشرائع السماوية السابقة، وفي هذا إشارة لطيفة إلى وحدة جذور هذه الشرائع.

تلك هي الفاتحة الَّتي استحقَّت أن تسمَّى أمَّ الكتاب إذ حوت مقاصده الأسـاسية؛ من دعوة للتَّوحيد، وإقرارٍ بالعبودية الخالصـة لله وحده، والتِمَاس العون منه لاجتياز رحلة الحياة بنجاح، والوصول إلى دار السَّلام بسلام. ولا تصحُّ صلاة المسلم إلا بقراءتها، ذلك لأن الصَّلاة صلة بين العبد وخالقه، ولأن لها معالم وسمات أهمها، شعور المؤمن بالقرب والقدسية، وهو يقف بين يدي الله تعالى وفي حضرته، ولهذا فمن الطبيعي أن يتوجَّه إليه بكلماته الَّتي علَّمه إياها، ليعرف كيف يثني عليه ويحمده.

ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: قسمت الصَّلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي،? ولعبدي ما سأل. إذا قال العبد: الحمد لله ربِّ العالمين. قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحمن الرَّحيم. قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدِّين. قال الله: مجَّدني عبدي، وإذا قال: إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين. قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الَّذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضَّالِّين. قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل».

وما أجمل أن نختتم هذا الباب بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبشروا فإن هذا القرآن طَرَفُه بيد الله وطَرَفُه بأيديكم فتمسَّكوا به، فإنكم لن تهلكوا ولن تضلُّوا بعده أبداً» (رواه الطبراني).