آيات قرآنية

زكريَّا ويحيى عليهما السَّلام

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {هُنالكَ دَعا زكريَّا ربَّهُ قال ربِّ هَب لي من لَدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إنَّك سمِيعُ الدُّعَاء(38) فنادتهُ الملائِكَةُ وهو قائمٌ يُصَلِّي في المحرابِ أنَّ الله يُبَشِّرُكَ بيَحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ من الله وسَيِّداً وحَصُوراً ونَبِيّاً من الصَّالِحينَ(39)}

سورة مريم(19)

وقال أيضاً: {كهيعص(1) ذِكْرُ رحمةِ ربِّك عبدَهُ زكريَّا(2) إذ نادى ربَّهُ نِداءً خَفيّاً(3) قال ربِّ إنِّي وَهَنَ العَظْمُ منِّي واشتعلَ الرأسُ شيباً ولم أَكُنْ بِدُعائِكَ ربِّ شقيّاً(4) وإنِّي خِفْتُ المواليَ من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لَدُنك وليّاً(5) يرثُني ويرثُ من آل يعقوبَ واجعله ربِّ رضيّاً(6) يازكريَّا إنَّا نُبشِّرك بغلامٍ اسمهُ يَحيى لم نجعل له من قبلُ سَميّاً(7) قال ربِّ أنَّى يكونُ لي غلامٌ وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغتُ من الكِبَرِ عِتِيّاً(8) قال كذلكَ قال ربُّك هو عليَّ هيِّنٌ وقد خَلَقْتُكَ من قَبلُ ولم تَكُ شيئاً(9) قال ربِّ اجعل لي آيةً قال آيتُكَ ألاَّ تُكلِّمَ النَّاسَ ثلاثَ ليالٍ سَوِيّاً(10) فخرجَ على قومهِ من المحرابِ فأوحى إليهم أن سَبِّحوا بُكْرَةً وعَشيّاً(11) يايحيى خُذِ الكتابَ بقوَّةٍ وآتيناهُ الحُكْمَ صبيّاً(12) وحناناً من لَدُنَّا وزكاةً وكان تقيّاً(13) وبرّاً بوالديهِ ولم يَكن جبَّاراً عَصيّاً(14) وسلامٌ عليه يومَ ولِدَ ويومَ يَموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً(15)}

ومضات:

ـ الرغبة في الحصول على الولد رغبة فطريَّة عفويَّة، فطر الله عليها الناس جميعاً لاستمرار الحياة وبقاء النوع الإنساني. إلا أن الصالحين من عباد الله يبتغون الذريَّة الصالحة الطيِّبة، لتكون متعة وعوناً لهم في الحياة، وخلفاً لهم في الصلاح والإصلاح بعد الممات، لتستمرَّ مسيرة الحياة بالإنسان ولتبقى نفحات الهداية بالمهتدين.

ـ إن تربية الأطفال في أحضان الصلاح والتَّقوى، تضمن لهم مستقبلاً زاهراً، وتؤهِّلهم لمكانة عالية، ومقام رفيع عند الله وعند الناس.

ـ أحرُّ الدعاء هو ذلك الَّذي ينبعث من القلب، ممتزجاً بالرجاء حين تتقطَّع بالإنسان الأسباب، فينقطع الأمل والرجاء ممَّا سوى الله، ولا يبقى أمامه إلا عامل الثقة بفضل الله وقدرته، فيمدُّه بالأمل بعد اليأس، ويبشِّره بالفرج بعد الشدَّة، وهذا ما كان من أمر زكريَّا عليه السَّلام، حين طلب من حضرة الله الذريَّة الصالحة على الرُّغم من انعدام الأسباب، فهو كهل كبير، وامرأته عاقر عقيم. وتراه تمنَّى أن يكون له ولد عندما رأى نجابة سيِّدتنا مريم وصلاحها، واستقامتها وعناية الله بها، ولا يخفى أنَّ ذكر هذه الواقعة في القرآن الكريم تنبيه لنا إلى الغاية الَّتي يجب أن تكون مقصدنا من الزواج.

ـ أمتع ساعات المؤمن وأشدُّها قرباً من الله هي تلك الَّتي يكون فيها معتكفاً في محراب العبادة والخلوة. وفي مثل هذه الساعات تأتي البشائر وتتنزَّل المِنَح الإلهية، وفي سبيل الحصول عليها والاستزادة منها يتنافس المتنافسون. وما أروع الساعة الَّتي تنزَّلت فيها ملائكة السماء على نبي الله (زكريَّا) تزفُّ إليه البشرى بمولودٍ نبيٍّ، وسيِّدٍ عفيف تقي.

ـ الذكر والتسبيح هما غذاء الروح الَّذي لا غنى للإنسان عنه صباح مساء.

في رحاب الآيات:

زكريَّا عليه السَّلام نبي من أنبياء الله، أفنى حياته في الدعوة إلى الله وخدمة الهيكل المقدَّس في مدينة القدس، وقد كان يتمنَّى أن يرزقه الله ولداً يواصل دعوته من بعده، خوفاً على قومه من الضلال بعد أن بدأت بوادره تظهر فيهم. ولكنَّ تقدُّمه في السن، وعقم زوجته، أضعفا لديه الأمل في الإنجاب. لكنه حين رأى الكرامة الَّتي منحها الله تعالى للصِدِّيقة مريم، والعناية الإلهية الَّتي أحاطت بها أثناء كفالته لها، تحرَّكت في أعماقه الرغبة الفطريَّة من جديد، فاتَّجه إلى ربه بالدعاء، خاشعاً له معترفاً بفضله، مصرِّحاً بضعفه وعجزه أمام قدرته وسلطانه، ملتمساً تلبية ندائه وتحقيق أمنيَّته بأن يهبه مولوداً صالحاً، فهو السميع المجيب، وهو وحده القادر على كلِّ شيء. فأثابه الله على عظيم ثقته به، وصدق يقينه بإجابته، فحقَّق مراده؛ فبينما كان زكريَّا عليه السَّلام واقفاً في المحراب (مكان عبادته) يصلِّي، أتته الملائكة تحمل إليه البشرى بمولود ذكر اسمه (يحيى)، ولم تقتصر البشارة على المولود، بل حدَّدت ملامح شخصيَّته، تثبيتاً وطمأنة للوالد الصالح الَّذي سلَّم كلَّ أمره لله، فالمولود سيكون نبيَّاً مصدِّقاً برسالة عيسى عليه السَّلام الَّذي أوجده الله بكلمة منه، وهو سيِّد في العلم والعبادة والصلاح والتَّقوى، يحبس نفسه عن الشهوات، ويصونها عفَّة وزهداً، فالبشارة الثانية بنبوَّة يحيى كانت أغلى وأسمى من البشـارة الأولى وهي المولود المنتظر. وفي ذروة فرحه وسروره بهذه البشارة، يرجع إلى نفسه ويتفكَّر في واقعه، ممَّا يدفعه إلى التساؤل والعجب، إذ كيف سيكون له ولد بعد أن أحاط الكبر به وبزوجته، وأدركتهما الشيخوخة؟! فكان عمره آنذاك مائة وعشرين سنة، وزوجته عقيم وعمرها ثمان وتسعون سنة، وأيٌّ من السببين عادةً مانع من الولد، ولكنَّ يقينه بأن الله لا يعجزه أمر مهما بلغت صعوبته أبقى فؤاده هادئاً في ظلال اليقين، فمتى شاء الله أمراً هيَّـأ له أسبابه أو خلقه من غير أسباب، فلا يحول دون مشيئته شيء!.

وبعد أن تيقَّن زكريا عليه السَّلام من قبول دعائه، واستجابة الله له، سأله عن علامة تدلُّه على وقوع الحمل، وكان سؤاله بدافع السرور، أو ليطمئن قلبه بحصوله، أو ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها، فوجَّهه الله إلى طريق الاطمئنان الحقيقي بقوله: آيتك ألا تتكلَّم مع الناس إلا بالإشارة، ثلاثة أيام بلياليها مع أنك سويٌّ صحيح. والقصد أن يأتيه مانع سماوي يمنعه من الكلام، ولكنَّه لا يمنعه من الذكر والتسبيح لذات الله العليَّة، بل إن الله سبحانه وتعالى قد أمره أن يستزيد من التسبيح والشكر، وأن ينزِّهه عن صفات النقص بقوله: (سبحان الله) في أوَّل النهار وآخره وعلى مدار الساعة وطيلة الأوقات، وكان هذا التسبيح شكراً حقيقيّاً للنعمة الَّتي أفاءها الله عليه بقدوم المولود الَّذي بُشِّر به. فقد استجيبت الدعوة وتحقَّقت الأمنية، ثمَّ بدأت آيات البشارة تظهر على الغلام شيئاً فشيئاً؛ حتَّى إذا بلغ مبلغاً يُخاطَب به، أتاه الخطاب من الله تعالى: {يايحيى خُذِ الكتابَ بقوَّةٍ} أي خذ التوراة الَّتي هي نعمة الله على بني إسرائيل، بجدٍّ ومثابرة وعزيمة، وحرصٍ على العمل بها، والدعوة إليها، والحكم بما فيها.

وهكذا آتاه الله النبوة وهو صغير دون السابعة، وقد بعثه مع عيسى في وقت واحد وهما صبيَّان، إلا أن عيسى عليه السَّلام لم يجهر بدعوته إلا بعد مقتل يحيى. فكان يحيى يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب ويعمِّدهم (أي يغسلهم في نهر الأردن) للتوبة من الخطايا. وقد أخذ النصارى عنه طريقته هذه، ولهذا السبب سمِّي يوحنَّا المعمدان. وقد ذكر الله تعالى في الآيات الكريمة أبرز الصفات الَّتي تحلَّى بها يحيى عليه السَّلام، بعد أن ذكر أشرف صفاته وهي النبوَّة. فقد وهبه تعالى إضافة إلى ما ذكر رحمةً وشفقة على خلق الله، وكان مطهَّراً من أدران الذُّنوب والمعاصي، مطيعاً لله فيما يأمره أو ينهاه، كما كان كثير البرِّ ودائم الطاعة لوالديه، حَذِراً من عقوقهما أو عصيانهما. ولم يكن متكبِّراً على أحد من الناس، ولم يكن يعصي ربَّه ولا يخالفه في شيء. روى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريَّا».

وما أجمل الخاتمة الَّتي نختم بها صفات هذا النبي الكريم؛ إنها التحيَّة من الله الَّذي يُقْرئُه السَّلام والأمان في أحوال ثلاث: سلام عليه يوم ولادته، وسلام عليه عند وفاته وانتقاله، وسلام عليه عندما يبعث حيّاً يوم البعث والنشور.