آيات قرآنية

عيسى عليه السَّلام

وأمُّه الصدِّيقة مريم

ا ـ نشأة السيِّدة مريم الروحية:

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {إنَّ الله اصطَفى آدمَ ونُوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ على العالمين(33) ذُرِّيَّةً بعضُهَا من بعضٍ والله سميعٌ عليمٌ(34) إذ قالتِ امرأةُ عِمرانَ ربِّ إنِّي نَذَرتُ لكَ ما في بطني مُحرَّراً فَتَقَبَّل منِّي إنَّك أنتَ السَّميعُ العليمُ(35) فلمَّا وَضَعَتهَا قالت ربِّ إنِّي وَضعْتُها أُنثى والله أَعلَمُ بما وَضَعَتْ وليس الذَّكَرُ كالأُنثى وإنِّي سَمَّيتُهَا مريم وإنِّي أُعِيذُهَا بك وذُرِّيَّتَها من الشَّيطانِ الرَّجيم(36) فَتَقَبَّلَهَا ربُّها بِقَبُولٍ حسنٍ وأنبَتَهَا نَبَاتاً حسناً وكَفَّلَها زكريَّا كلَّما دخل عليها زكريَّا المِحرَابَ وَجَدَ عندها رزقاً قال يامريمُ أنَّى لك هذا قالت هو من عندِ الله إنَّ الله يَرزُقُ من يشاءُ بغيرِ حسابٍ(37)}

ب ـ منزلة السيِّدة مريم وبشارة الملائكة لها بعيسى عليه السَّلام:

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {وإذ قالت الملائِكَةُ يامريمُ إنَّ الله اصطَفَاكِ وطَهَّرَكِ واصطَفَاكِ على نساءِ العالمين(42) يامريمُ اقنُتِي لربِّكِ واسجُدِي واركَعِي مع الرَّاكعين(43) ذلك من أنبَاءِ الغيبِ نُوحِيهِ إليكَ وما كُنتَ لَدَيهِم إذ يُلقُونَ أقلامَهُم أيُّهُم يَكفُلُ مريمَ وما كُنتَ لَدَيِهم إذ يَختَصمُون(44) إذ قالت الملائِكَةُ يامريمُ إنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ منهُ اسمُهُ المَسِيحُ عِيسى ابنُ مريمَ وَجِيهاً في الدُّنيا والآخرةِ ومن المُقرَّبِين(45) ويُكَلِّمُ النَّاسَ في المَهدِ وكَهلاً ومن الصَّالِحين(46) قالت ربِّ أنَّى يكونُ لي ولَدٌ ولم يَمسَسنِي بَشَرٌ قال كذلِكِ الله يَخلُقُ ما يشاءُ إذا قَضَى أمراً فإنَّما يقولُ له كُن فَيَكُونُ(47)}

ج ـ معجزة حمل السيِّدة مريم بعيسى وقصَّة ولادته:

سورة مريم(19)

قال الله تعالى: {واذكُر في الكتَابِ مريمَ إذ انتَبَذَت من أهلها مكاناً شَرقيّاً(16) فاتَّخَذَت من دونِهِم حِجَاباً فأرسلنا إليها رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لها بَشَراً سَويّاً(17) قالت إنِّي أعُوذُ بالرَّحمَنِ منك إن كُنتَ تَقِيّاً(18) قال إنَّما أنا رَسُولُ ربِّكِ لأَهَبَ لك غُلاماً زكيّاً(19) قالت أنَّى يكُونُ لي غُلامٌ ولم يَمسَسنِي بَشَرٌ ولم أَكُ بَغِيّاً(20) قال كذلِكِ قال ربُّكِ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ ولنَجعَلَهُ آيةً للنَّاسِ ورحمَةً منَّا وكان أمراً مقضيّاً(21) فحمَلَتهُ فانتَبَذَت به مَكَاناً قَصِيّاً(22) فَأجاءَهَا المَخَاضُ إلى جِذعِ النَّخلَةِ قالت ياليتني مِتُّ قَبلَ هذا وكُنتُ نَسياً منسِيّاً(23) فناداها من تَحتِهَا ألاَّ تحزَني قد جَعَلَ ربُّكِ تَحتَكِ سَرِيّاً(24) وهُزِّي إليكِ بجذعِ النَّخلَةِ تُسَاقِط عليكِ رُطَباً جَنِيّاً(25) فَكُلِي واشرَبِي وقَرِّي عيناً فإمَّا تَرَيِنَّ من البَشَرِ أحداً فَقُولِي إنِّي نَذَرتُ للرَّحمَن صَوماً فلن أُكَلِّمَ اليومَ إنسِيّاً(26) فَأَتَت به قَومَهَا تَحمِلُهُ قالوا يامريمُ لقد جئتِ شيئاً فَرِيّاً(27) يا أُختَ هارُونَ ما كان أبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وما كانت أُمُّكِ بَغِيّاً(28) فأشَارَت إليه قالوا كيفَ نُكَلِّمُ من كان في المَهدِ صَبِيّاً(29) قال إنِّي عَبدُ الله آتَانِيَ الكتَابَ وجَعَلَني نَبِيّاً(30) وجَعَلَنِي مُبَارَكاً أين ما كُنتُ وأوصَانِي بالصَّلاةِ والزَّكَاةِ مادُمتُ حَيّاً(31) وبَرّاً بوالدتي ولم يَجعَلنِي جَبَّاراً شَقِيّاً(32) والسَّلام عَلَيَّ يومَ ولِدتُ ويومَ أمُوتُ ويومَ أُبعَثُ حَيّاً(33) ذلكَ عيسى ابنُ مريمَ قولَ الحَقِّ الَّذي فيه يَمتَرُون(34) ما كان لله أن يَتَّخِذَ من وَلَدٍ سُبحَانَهُ إذا قَضَى أمراً فإنَّما يقولُ له كُن فَيَكُونُ(35)}

د ـ نبوة عيسى عليه السَّلام ومعجزاته:

سورة المائدة(5)

قال الله تعالى: {ما المسيحُ ابنُ مريمَ إلاَّ رسولٌ قد خَلَت من قَبلِهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأكُلانِ الطَّعامَ انظُر كيف نُبَيِّنُ لهم الآياتِ ثمَّ انظُر أنَّى يُؤفَكُونَ(75) قُل أتَعبُدُونَ من دُونِ الله ما لا يَملِكُ لكم ضَرّاً ولا نَفعاً والله هو السَّمِيعُ العليمُ(76)}

سورة آل عمران(3)

وقال أيضاً: {ويُعَلِّمُهُ الكتابَ والحِكمةَ والتَّوراةَ والإنجِيلَ(48) ورسُولاً إلى بَنِي إسرائِيلَ أنِّي قد جِئتُكُم بآيةٍ من ربِّكُم أنِّي أخلُقُ لكم من الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فأنفُخُ فيه فيكونُ طَيراً بإذنِ الله وأُبرِئ الأكمَهَ والأبرَصَ وأُحيي الموتَى بإذنِ الله وأُنَبِّئُكُم بما تَأكُلونَ وما تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُم إنَّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتُمْ مؤمِنِينَ(49) ومُصَدِّقاً لما بين يَدَيَّ من التَّوراةِ ولأُحِلَّ لكم بعضَ الَّذي حُرِّمَ عليكم وجِئتُكُم بآيةٍ من ربِّكُم فاتَّقُوا الله وأطِيعُونِ(50)}

سورة المائدة(5)

وقال أيضاً: {إذ قال الحَواريُّونَ ياعيسى ابنَ مريمَ هل يستطيعُ ربُّكَ أن يُنَزِّلَ علينا مائدةً من السَّماء قال اتَّقُوا الله إن كنتُم مؤمنين(112) قالوا نُريدُ أن نأكُلَ منها وتَطمَئِنَّ قُلُوبُنَا ونَعلَمَ أن قد صَدَقْتَنَا ونكونَ عليها من الشَّاهدينَ(113) قال عيسى ابنُ مريمَ اللَّهُمَّ ربَّنا أنزِل علينا مائِدةً من السَّماءِ تكونُ لنا عيداً لأوَّلِنَا وآخِرِنَا وآيةً منكَ وارزُقنا وأنتَ خيرُ الرَّازِقين(114) قال الله إنِّي مُنَزِّلُهَا عليكم فمن يَكفُر بعدُ منكم فإنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أحداً من العالمين(115)}

هـ ـ أنصار عيسى عليه السَّلام:

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {فلمَّا أحسَّ عيسى منهمُ الكُفرَ قال مَنْ أنصَارِي إلى الله قال الحَوَاريُّونَ نحنُ أنصارُ الله آمنَّا بِالله واشهَد بأنَّا مُسلِمُونَ(52) ربَّنَا آمنَّا بما أَنزلتَ واتَّبَعنَا الرَّسُولَ فاكتُبنَا مع الشَّاهِدين(53)}

سورة الصف(61)

وقال أيضاً: {ياأيُّها الَّذين آمَنُوا كونوا أنصارَ الله كما قال عيسى ابنُ مريمَ للحَوارييِّنَ مَن أنصَاري إلى الله قال الحَواريُّونَ نحنُ أنصَارُ الله فآمَنَت طَائِفَةٌ من بَني إسرائيلَ وكَفَرَت طائِفَةٌ فأيَّدنَا الَّذين آمَنُوا على عَدوِّهِم فأصبَحوا ظاهرينَ(14)}

و ـ مكر اليهود بعيسى ورفعه إلى السماء:

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {ومَكَرُوا ومَكَرَ الله والله خيرُ المَاكِرينَ(54) إذ قال الله ياعيسى إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورَافِعُكَ إليَّ ومُطَهِّرُكَ من الَّذين كَفَرُوا وجاعِلُ الَّذين اتَّبَعُوكَ فوق الَّذين كَفَرُوا إلى يومِ القيامةِ ثمَّ إليَّ مرجعُكُم فأحكُمُ بينكُم فيما كنتُم فيه تَختَلِفُونَ(55) فأمَّا الَّذين كَفَرُوا فأُعَذِّبُهُمْ عذاباً شديداً في الدُّنيا والآخِرةِ وما لهُم من ناصِرين(56) وأمَّا الَّذين آمنوا وعملُوا الصَّالحاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم والله لا يُحبُّ الظَّالمين(57) ذلك نَتلُوهُ عليك من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ(58) إنَّ مَثَلَ عيسى عند الله كَمَثَلِ آدمَ خَلَقَهُ من تُرابٍ ثمَّ قال له كُن فَيَكُونُ(59)}

ز ـ نفي قتل عيسى عليه السَّلام وصلبه:

سورة النساء(4)

قال الله تعالى: {وقَولِهِم إنَّا قَتَلنَا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ الله وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لهم وإنَّ الَّذين اختَلَفُوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من عِلمٍ إلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وما قَتَلُوهُ يَقِيناً(157) بل رفَعَهُ الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً(158) وإنْ من أهلِ الكتابِ إلاَّ لَيُؤمِنَنَّ به قبل مَوتِهِ ويومَ القيامةِ يكون عليهم شهيداً(159)}

ح ـ الدعوة إلى التوحيد كانت جوهر رسالة عيسى عليه السَّلام:

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {إنَّ الله ربِّي وربُّكُم فاعبُدوهُ هذا صراطٌ مُستقيمٌ(51)}

سورة التوبة(9)

وقال أيضاً: {وقالتِ اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله وقالتِ النَّصارى المسيحُ ابنُ الله ذلك قَولُهُم بأفواهِهِم يُضَاهِئُونَ قولَ الَّذين كَفَرُوا من قبلُ قاتلَهُمُ الله أنَّى يُؤفَكُونَ(30) اتَّخَذُوا أحبارَهُم ورُهبَانَهُم أرباباً من دونِ الله والمسيحَ ابنَ مريمَ وما أُمِروا إلاَّ لِيَعبُدُوا إلَهاً واحداً لا إلهَ إلاَّ هوَ سُبحانَهُ عمَّا يُشرِكُونَ(31)}

سورة المائدة(5)

وقال أيضاً: {وإذ قال الله ياعيسى ابنَ مريمَ ءأَنتَ قُلتَ للنَّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَينِ من دونِ الله قال سُبحانكَ ما يكونُ لي أن أقولَ ما ليس لي بِحَقٍّ إن كُنتُ قُلتُهُ فقد عَلِمتَهُ تَعلَمُ ما في نفسي ولا أعلَمُ ما في نَفسِكَ إنَّكَ أنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ(116) ما قُلتُ لهم إلاَّ ما أمَرتَنِي به أن اعبُدُوا الله ربِّي وربَّكُم وكُنتُ عليهم شهيداً مادُمتُ فيهم فلمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقيبَ عليهم وأنتَ على كُلِّ شَيءٍ شهيدٌ(117) إن تُعَذِّبهُم فإنَّهُم عبادُكَ وإن تَغفِر لهم فإنَّكَ أنتَ العزيزُ الحكيمُ(118)}

سورة النساء(4)

وقال أيضاً: {ياأهلَ الكتابِ لا تَغلُوا في دينِكُم ولا تَقُولُوا على الله إلاَّ الحَقَّ إنَّما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسُولُ الله وكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مريمَ وروحٌ منهُ فآمِنُوا بالله ورُسُلِهِ?ولا تَقُولُوا ثلاثةٌ انتَهُوا خَيراً لكم إنَّما الله إلهٌ واحِدٌ سُبحانهُ أن يكونَ له وَلَدٌ لهُ ما في السَّمواتِ وما في الأَرضِ وكَفَى بالله وكيلاً(171) لن يَستَنكِفَ المسيحُ أن يكونَ عبداً لله ولا الملائِكَةُ المُقَرَّبُونَ ومن يَستَنكِفْ عن عِبادَتِهِ ويَستَكبِر فَسَيَحشُرُهُم إليه جميعاً(172) فأمَّا الَّذين آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ فَيُوَفِّيهِم أُجُورَهُم ويَزيدُهُم من فَضلِهِ وأمَّا الَّذين استَنكَفُوا واسـتَكبَروا فَيُعَذِّبُهُم عذاباً أليماً ولا يَجِدونَ لهم من دونِ الله وليّاً ولا نصيراً(173)}

في رحاب الآيات:

هذه الروائع القرآنية تتحدَّث عن نفسها بنفسها، ولهذا سنكتفي بالإشارة إلى قبسات ورشحات عن المسيحية الأصيلة، كما جاءت في القرآن الكريم، نوجزها فيما يلي:

ـ ترجع بداية بزوغ فجر المسيحية إلى مشيئة إلهية، نفذت في حياة الأسرة العمرانية الكريمة، بعد أن التجأت امرأة عمران إلى ربِّها ـ وكانت عاقراً ـ وتوسلت إليه بأن يرزقها الولد، فاسـتجاب الله دعاءهـا، ولـمَّا تحقَّقت الحمل نذرت جنينهـا ـ وهو أعزُّ ما تملك ـ لخدمة بيت المَقْدِس. فكانت في عملها هذا نموذجاً مثاليّاً لمن بعدها في التضحية، بالغالي والنفيس، من أجل نصرة دين الله والدعوة إليه.

ـ الناس في عبادة الله وخدمة دينه سواء، وكذلك شأنهم في تحصيل مقامات القرب لديه، فلا فرق في ذلك بين ذكرهم أو أنثاهم، فمن جدَّ وجد ومن سار على درب التَّقوى وصل. ويتقبَّل الله تعالى كلَّ عمل يُرفع إليه مقروناً بالإخلاص والصدق، قلَّ أم كثر، صَغُر أم عَظُم، فالأعمال بالنيَّات ولكلِّ امرئ ما نوى، والله يتولَّى نماء ذلك العمل المخلص ومضاعفة أجره.

ـ يتبارى الصـالحون منذ القِدم في خدمة مَن أولاهم الله تعـالى رعايته وفضله، فكان أهل الفضل وخواصُّ القوم، توَّاقين لرعاية مريم الطاهرة ونيل شرف خدمتها، فتنازعوا بشأن كفالتها، وما كان تنازعهم هذا إلا لأنهم رأوا في ذلك واجباً دينيّاً، لاسيَّما وأنَّ أمَّها قد نذرتها للعبادة، ولخدمة بيت المَقْدِس، فاقترعوا بينهم فكانت الكفالة لزكريَّا ـ زوج خالتها ــ وكان معروفاً بالعلم والخُلق والتَّقوى، فتعهَّدها بالرعاية الحسنة والهداية التَّامة، حتَّى شبَّت وترعرعت على الفضيلة والإيمان، والاستقامة على طاعة الله، والسعي لتحقيق مرضاته.

ـ عندما دخلت السيِّدة مريم العذراء في مرحلة النُّضْج الروحي والجسدي، نالت وسام الاصطفاء من حضرة الله سبحانه وتعالى، ومن ثمَّ فقد أُمِرت بمتابعة الإعداد الروحي، والمداومة على العبادة، فكانت من خير العابدات، وكبرى العاشقات لله تعالى، المتذلِّلات بين يديه سبحانه، وواحدة من أفضل سيِّدات نساء العالمين.

ـ من الكرامات الَّتي منحها الله تعالى للسيِّدة العذراء، والَّتي كانت ثمرة من الثمرات الَّتي جنتها من تعبُّدها وقُنُوتها لربِّها وهي في ريعان الصِّبا؛ أن أغدق الله عليها في محرابها رزقاً طيِّباً مباركاً، لا وجود لمثله عند الناس في ذلك الوقت. وفي هذا إيحاء للفتية والفتيات بأن يبدؤوا رحلة حياتهم بالتربية الروحية، والصفاء القلبي وحسن الصلة بالله، لتتحوَّل نفوسهم إلى تربة صالحة لزرع الطيِّبات.

ـ عنـدما أتى الملاك جبريل ـ بصورة رجل ـ إلى البتول مريم اسـتعاذت منه بحضرة الله لهول المفاجأة، وذلك دليلٌ على عفَّتها وطهارتها. ويُسـتشفُّ من قولها له: {إن كُنْتَ تَقيّاً} بأن من يعرف الله ويتَّقيه يُخَوَّفُ بالله ويُحذَّر منه، وأن من لا يخشى الله لا يُخوَّفُ به بل يُهدَّد بالسلطة أو بالقضاء. فالاستعاذة بالله هي حال المؤمنين الأطهار عند كلِّ نازلة أو خطب يحطُّ بهم.

ـ عندما حصلت معجزة حمل العذراء بعيسى عليه السَّلام ـ بعد أن نفخ الملاك الكريم فيها من روح الله ـ ما كان منها إلا أن استسلمت لقضاء ربِّها، وذهبت بجنينها إلى مكانٍ بعيدٍ عن الناس، وقد عزمت على الاعتزال خشية إلحاق التُّهمة بها، والريبة في أمرها من قِبَل قومها. ولما حان أوان وضعها بدأت تعاني آلام الولادة فالتجأت إلى جذع نخلة لتتكئ عليه، وفي خضم هذه المحنة القاسية وتحت وطأة الشعور بثقل العبء الَّذي تحمَّلته، تمنَّت لو أن المنيَّة عاجلتها قبل وصولها لهذه المرحلة، أو أنها لم تكن ذات شأن في يوم من الأيام، بحيث لا تخطر ببال أحد، وكان الدافع الَّذي حملها على هذه الأمنية خوفها من إساءة الظنِّ بها، والتشكيك بورعها من جهة، وخوفها على قومها من نزول العقاب والهلاك بهم من جهة أخرى؛ جزاءً على البهتان الَّذي سيرمونها به.

ـ من عظيم رعاية الله بالصدِّيقة مريم، أن هيَّأ لها مكاناً لولادتها قرب نخلةٍ اتَّخذت من جذعها سنداً تتعلَّق به لتسهيل الولادة، ومن رطبها غذاءً يمدُّها بالقوَّة والحيوية. وقد أكَّدت الدراسات العلمية أن القيمة الغذائية العالية المتركزة في ثمرة الرطب، لا نظير لها ـ للناس عامَّةً وللنفساء خاصَّة ـ فهي تحوي نسبة عالية من أسيد الليمونيك، الَّتي تساعد على إنقاص نسبة الأسيد في البول والدم عندما تحترق في الجسم، كما يحوي التمر على نسبة عالية من السكر الطبيعي، الَّذي يمتصُّه الجسم بسرعة كبيرة، فيمدُّه بالنشاط والحيوية.

ـ عندما حانت اللحظات الحرجة، وظهرت السيِّدة البتول مع ابنها أمام أعين الناس، انهالت عليها التُّهم بلا رحمة أو شفقة، وهي الَّتي ما عُرف عنها إلا الصلاح، وأنها ابنة الصالحين أباً عن جد؛ حينها تدخَّلت العناية الإلهية، لتواسيها وتأمرها بألا تنبس ببنت شفة، وذلك لئلا ترهق نفسها، وتبذل مجهوداً بالحوار في مسألة ردِّ التُّهمة عنها. وقد تكفَّل الله بالدِّفاع عنها، فأوحى إليها بأن تشير إلى ولدها الرضيع في مهده، ليكلِّموه ويسألوه، فتعجَّب القوم من ذلك، إلا أن الطفل الرضيع نطق بقدرة الله ومشيئته، معلناً للملأ براءة أمِّه القدِّيسة، مبيِّناً أنه عبدٌ لله، وصاحب رسالة، وأمين على كتاب الله. وبهذا فإن الله تعالى قد جعل دليل براءة مريم من جنس دليل اتِّهامها، فكان كلٌّ من الأمرين معجز، وكان تأييد الله للصدِّيقة مريم وولدها بالكرامات والمعجزات، كفيلاً للدعوة المسيحية بالظهور والانتشار. وقد استندت هذه الدعوة في قيامها واستمراريتها على أسسٍ أهمها:

1 ـ التَّوحيد: فقد كانت النقطة الأولى الَّتي انطلقت منها دعوة عيسى عليه السَّلام، هي إقراره بالإله الواحد الَّذي لا شريك له، ولا صاحبة، ولا ولد؛ والدعوة إلى عبادته تعالى: {وإنَّ الله ربِّي وربُّكُم فاعبُدوه هذا صراطٌ مستقيم} (19 مريم آية 36) وبيانه الواضح بأنه عبدٌ من عباد الله اصطفاه بالنبوة، وأنه بشرٌ يولد ويموت ثمَّ يبعث حيّاً، لتبقى هذه الحقيقة ماثلة ظاهرة للعيان: {قال إنِّي عبدُ الله آتاني الكتابَ وجعلني نبيّاً * وجعلني مُباركاً أين ما كُنتُ وأوصاني بالصَّلاةِ والزَّكاة ما دمتُ حيّاً * وبَرّاً بوالِدَتي ولم يجعلني جبَّاراً شقيّاً * والسَّلام عليَّ يومَ وُلِدتُّ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعَثُ حيّاً} (19 مريم آية 30ـ33).

2 ـ مصدر الشرائع واحد: فقد جاء السيِّد المسيح متمِّماً لرسالة موسى عليهما السَّلام، ومصحِّحاً لها ممَّا اعتراها من دخائل وتشويه من بعض رجال الدِّين القائمين على أمر التوراة، وليخفِّف عن بني إسرائيل بعضاً ممَّا كانوا قد حملوه، لقاء ذنوب اقترفوها في السابق، قال تعالى: {ومُصَدِّقاً لِمَا بين يَديَّ من التَّوراةِ ولأُحِلَّ لكم بعضَ الَّذي حُرِّمَ عليكم..} (3 آل عمران آية 50).

3 ـ التبشير بمجيء محمَّد صلى الله عليه وسلم : كان عيسى عليه السَّلام يعبِّر عن المبشَّر به بلفظ (النبي) وبلفظ (مسيا) وبلفظ (فارقليط). والفارقليط: تعريب للَّفظ اليوناني (بيريكلتوس) الموجود في الإنجيل بالترجمة اليونانية، ومعنى هذه الكلمة محمَّد وأحمد. فالتبشير بنبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم ومجيئه كان من ضمن ما دعا إليه السيد المسيح، قال الله تعالى حكاية على لسان عيسى عليه السَّلام: {وإذ قال عيسى ابنُ مريمَ يابَنِي إسرائيل إنِّي رسولُ الله إليكم مُصَدِّقاً لِما بينَ يديَّ من التَّوراةِ ومُبَشِّراً برسولٍ يأتي من بعدي اسْمُهُ أحمد..} (61 الصف آية 6).

4 ـ المعجزات الَّتي كان الناس يشهدون وقوعها من قِبَل السيد المسيح ما هي إلا تأييد من الله تعالى له، أجراها على يديه ليبيِّن صدق نبوته ورسالته: {ورسولاً إلى بني إسرائيلَ أنِّي قد جِئتُكُم بآيةٍ من ربِّكُم أنِّي أخلقُ لكم من الطِّينِ كهيئةِ الطَّير فأنفُخُ فيه فيكونُ طيراً بإذنِ الله وأُبْرِئ الأَكْمَهَ والأبرصَ وأُحْيي الموتى بإذنِ الله وأُنبِّئُكُم بما تأكلون وما تدَّخرونَ في بُيوتكم إنَّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنينَ} (3 آل عمران آية 49).

5 ـ إن المسيح عليه السَّلام لم يُقتل ولم يُصلب ولكن الله رفعه إليه: {بلْ رَفعهُ الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً} (4 النساء آية 158) ويصرِّح إنجيل برنابا بأن الجنود أخذوا يهوذا الأسخريوطي ظنّاً منهم بأنه المسيح، (فصل 216 آية 9)، وروايات المسلمين متَّفقة على أن عيسى نجا من أعدائه، وأنهم قتلوا رجلاً غيره ظنّاً منهم أنه المسيح، بدليل قوله تعالى: {..وما قَتَلوهُ وما صَلبوهُ ولكن شُبِّه لهم..} (4 النساء آية 157).

6 ـ عندما نجَّى الله تعالى عيسى من الصلب ورفعه إليه، بشَّره بأن كلَّ من آمن برسالته سيظلُّ متفوِّقاً، ولا سلطان للَّذين كفروا بالله عليه إلى يوم القيامة: {إذ قال الله ياعيسى إنِّي مُتَوفِّيكَ ورافِعُكَ إليَّ ومطهِّرُكَ من الَّذينَ كفروا وجاعِلُ الَّذين اتَّبعوكَ فوق الَّذين كفروا إلى يوم القيامةِ..} (3 آل عمران آية 55).

وعلى هامش الآيات الكريمة الَّتي روت لنا قصَّة السيد المسيح نستخلص ما يلي:

أ ـ لم يدعُ السيد المسيح عليه السَّلام أحداً إلى عبادته، بل إلى عبادة الله وحده، ربِّه وربِّ الناس جميعاً، وما دعوى ألوهيَّته إلا تقوُّلات وافتراءات، ابتدعها المفسدون والمستفيدون من تخريب العقيدة الصحيحة، لتحقيق أغراض فاسدة زالت مع زوالهم، ولكنَّها ـ وللأسف ـ قد تركت بعض الآثار قائمة، تشوِّه العقيدة السويَّة الَّتي يسعى وراءها الإنسان العاقل، وتشوبها بأفكار مستقاة من الوثنية اليونانية والرومانية القديمة، والتوراة والإنجيل منها براء. فقد ثبت بالأدلَّة التاريخيَّة القاطعة وجود عقيدة التثليث في العالم القديم، وقبل مجيء السيِّد المسيح بقرون عديدة، وهذا ما أعلمنا الله تعالى به في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: {وقالتِ اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله وقالتِ النَّصارى المسيحُ ابنُ الله ذلكَ قولُهُم بأفواههِم يُضَاهِئُونَ قولَ الَّذين كفروا من قَبلُ..} (9 التوبة آية 30)، أي يشابهون في قولهم هذا قول الَّذين كفروا من قبلهم.

فالمسيحية مبنيَّة على أساس التوحيد الخالص لله، لكنَّ بعض الكهنة حوَّلوها إلى ديانة وثنية، تُثْبِتُ عقيدة التثليث الَّتي أُخِذَتْ عن قدماء الرومانيين واليونانيين، وهؤلاء بدورهم اقتبسوها عن المصريين والبراهمة اقتباساً مشوَّهاً، فنسخوا بذلك شريعة سماوية، واستبدلوا بها بدعاً وتقاليد غريبة عنها، نُسبت زوراً إلى السيِّد المسيح، وهناك نصوص من كلام الإنجيل على لسان السيِّد المسيح عليه السَّلام تدلُّ على التوحيد؛ يقول مَرْقُسُ في الفصل الثاني عشر (الفقرة 30) من إنجيله: [إن أحد الكتَبَة سأل يسوع عن أوَّل الوصايا فأجابه: اسمع يا إسرائيل، (الربُّ إلهنا ربٌّ واحدٌ...الخ) فقال له الكاتب: جيِّداً يامعلِّم! بالحقِّ قلتَ لأنه الله واحد وليس آخر سواه، فلما رآهُ يسوع أنه أجاب بعقل قال له: لستَ بعيداً عن ملكوت السموات]. وجاء في إنجيل يوحنا173: [وهذه هي الحياة الأبديَّة أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الَّذي أرسلته]، وهذا كلام يدلُّ بوضوح على التوحيد في الإنجيل، وأن المسيح عليه السَّلام رسول من رسل الله.

ب ـ بما أن العقل المؤمن يستطيع أن يُسلِّم بقدرة الله تعالى على خلق آدم من حفنة تراب، من غير أمٍّ ولا أب، فإن من السهل عليه أن يُسلِّم بأنه تعالى خلق عيسى من أمٍّ بلا أب، وما ذلك عليه بعسير. وهذا بدوره يقتضي أن يكون عيسى بشراً مثل آدم أبي البشرية، قال تعالى: {إنَّ مَثَلَ عيسى عندَ الله كمَثلِ آدمَ خلقهُ من ترابٍ ثمَّ قال له كُنْ فيكون} (3 آل عمران آية 59).

ج ـ الغلوُّ في الدِّين يعادل التفريط فيه، والفضيلة هي الوسط بينهما وأخذ الأمور بميزان الاعتدال والقسط، فلا مبالغة تتجاوز الحدود العقلية وتحيد بصاحبها عن الطريق القويم، ولا تقصير يجعله عاجزاً عن المضيِّ فيه. والمقصود بالغلوِّ في الدِّين هو التطرُّف في التفسير والتأويل، وتحميل الدِّين معانيَ ومفاهيم ليست فيه، قال تعالى: {ياأهلَ الكتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكُم ولا تقولوا على الله إلاَّ الحقَّ..} (4 النساء آية 171).

د ـ تذكر الآيات الكريمة قصَّة العشاء الربَّاني بكلِّ إكرام، بعيداً عن الإسفاف، وتلقِّب مريم بالصدِّيقة، وهذا هو شأن القرآن الكريم والإسلام؛ الَّذي يحفظ كرامة الأنبياء والصدِّيقين من الدنس والفُحْش الَّذي أُلصق بهم افتراءً وبهتاناً؛ من قِبَلِ مفسدي العقائد والمجتمعات.

هـ ـ تحدَّث القرآن الكريم عن المعجزات الَّتي أيَّد الله بها نبوَّة السيِّد المسيح وأوردها كاملة، وتعرَّض لأحداث لم يَرِدْ ذكرها في الأناجيل أو في الكتب الَّتي أرَّخت حياته.

و ـ عندما صدَّق الحواريُّون وآمنوا بالله ربّاً واحداً، وبالسيِّد المسيح رسولاً من لَدُنْه، تحوَّلوا من صيَّادين بسطاء إلى فلاسفة حكماء عظماء، لأنهم استطاعوا أن يفهموا الإيمان منهجاً حقيقياً، فتجلَّى فيهم عقلاً حكيماً، وروحاً صافية، وأخلاقاً ملائكية، فاستحقُّوا وبجدارة لقب الحواريِّين، أي المخلصين سراً وعلانية، وقلبوا بذلك خريطة العالم الروحي.

ز ـ تقرِّر الآيات الكريمة بأن الله لم يمكِّن أعداء عيسى عليه السَّلام من قتله، بل نجَّاه من مكيدتهم ورفعه إليه، ووعده بأن يجعل الَّذين اتَّبعوه وآمنوا به فوق الَّذين كفروا، عزَّةً ومَنَعَةً وحجَّةً إلى يوم القيامة. وهذه الرفعة دينية روحانية، وهي تميزهم عن غيرهم بحسن الأخلاق وكمال الآداب، والقرب من الحقِّ، أمَّا التفوُّق المادي فَمَحَلُّ نظر لأنه ليس معيار الفضيلة والسمو.

ح ـ جاء في كثير من الأحاديث الصحيحة الإخبار بنزول السيد المسيح إلى الأرض في آخر الزمان، ويكون نزوله إحدى العلامات الكبرى لقيام السَّاعة، فيوضِّح ما التبس في عقول الناس بسبب التحريف الَّذي أدخله أعداؤه على رسالته. ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والَّذي نفسي بيده ليُوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَماً عدلاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الحرب، ويفيض المال حتَّى لا يقبله أحد، حتَّى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها»، ثمَّ يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: {وإنْ من أهلِ الكتابِ إلاَّ لَيُؤمِنَنَّ به قبلَ موتهِ ويومَ القيامةِ يكونُ عليهم شهيداً} (4 النساء آية 159). هذا وقد ارتأى بعض العلماء في العصر الحديث أن أحد مضامين عودة السيِّد المسيح هو عودة المسيحية الأصيلة، المصفَّاة من الشوائب، لتلتقي مع الشريعة الإسلامية المصفَّاة من دخائل التعصب والتطرف، ولتتلاقى بذلك قلوب الناس وتتآخى بالحبِّ والتعاون الكريمين.

ط ـ إن المسيح ابن مريم والملائكة والنبيين والمقرَّبين لن يترفَّعوا عن عبادة الله خالقهم، لأنهم يؤمنون بربوبيَّته، أمَّا الَّذين يستكبرون عن العبوديَّة لله فإنهم يذلُّون لعبوديَّات أخرى لا تنتهي، منها عبوديَّة الهوى والأنا، والشهرة والمال، وعبوديَّتهم لأمثالهم من البشر.

ي ـ تنزَّه الله تعالى عن أن يتَّخذ الولد، لأن الولد إنما يُرغب فيه ليكون معيلاً لأبيه في شيخوخته، حافظاً لذكره بعد موته، وهذا شأن الإنسان الَّذي يولد ويموت. أمَّا الحيُّ الباقي الَّذي لا بداية له ولا نهاية والقادر الَّذي يقول للشيء كن فيكون، فلا يحتاج إلى اتِّخاذ الولد، تبارك الله وتعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.

ك ـ إن حادثة خلق عيسى عليه السَّلام من غير أب، دليل قاطع على حُريِّة الإرادة الإلهيَّة الَّتي لا تتقيَّد بقانون السببيَّة الَّذي وضعه تعالى مع غيره من القوانين، ليحكم الظواهر الكونيَّة، لأنه تعالى هو خالق الأسباب والمسبِّبات ومبدعها، وله أن يخرق أيَّ قانون هو واضعه أو يستبدله بغيره متى شاء.

ل ـ الجواب الَّذي يتكرر دائماً وتردِّده أَلسِنَةُ الَّذين اعتمدوا التقليد الأعمى أسلوباً لمعتقداتهم وحياتهم، يواجهون به كلَّ نبي أو رسول يبعثه الله تعالى لإصلاح ما فسد من أمورهم هو قولهم: {..إنْ هذا إلاَّ سِحْرٌ مُبين} (5 المائدة آية 110) وهو الجواب نفسه الَّذي تلقَّاه السيِّد المسيح ممَّن كفر برسالته.

م ـ الفوز الحقيقي الَّذي يناله المؤمن هو أن يصل إلى حالة الرضى التام بكلِّ ما قدَّره له الله تعالى، والتسليم المطلق له دون اعتراض. ولا يصل إلى هذه المرتبة الفاضلة إلا من أنعم الله عليه برضاه: {قال الله هذا يومُ يَنفَعُ الصَّادقين صِدْقُهُم لهم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً رضيَ الله عنهم ورَضُوا عنه ذلك الفوزُ العظيم} (5 المائدة آية 119).

وفي الختام فإن الآيات القرآنية الكريمة الَّتي تتحدَّث عن السيِّدة مريم وأمِّها (امرأة عمران) وابنها السيِّد المسيح، يمكن إدراجها جميعاً تحت عنوان تكريم المسيحية في الإسلام. هذه الروائع المسيحية المقدَّسة نتلوها في صلاتنا، ونتذاكرها في مساجدنا، محبَّةً وتبرُّكاً وتقديساً. في حين أن ما نعرفه من الإنجيل، لم يدافع عن السيِّد المسيح ولا عن السيدة مريم العذراء؛ كما فعل القرآن الكريم،‍ الَّذي دافع عنهما بقوَّة وزاد في تكريمهما عندما سمَّى كبريات سوره بأسمائهم مثل: سورة "آل عمران" وهي عائلة السيِّدة مريم، وسورة "المائدة" والَّتي تتحدَّث عن معجزة المائدة الربَّانية المُنزَّلة على عيسى عليه السَّلام وحواريِّيه، وسورة "مريم" وهي السيِّدة البتول العابدة الطاهرة والدة عيسى عليه السَّلام. لذا وجب على البشريَّة أن تعود بالإيمان إلى منابعه الأولى، بعيداً عن التقليد والتشويه، لأن الإنسان المقلِّد قد رحل مع انتهاء العصور الغابرة، أمَّا إنسان العصر الحديث فهو يسعى وراء الحقيقة، والحقيقة تكمن في الإيمان الصافي والخالي من الشوائب والدخائل الَّتي أضافتها يد المغرضين والمعاندين.

وأخيراً فإن المسلمين من خلال تعاليم دينهم وقرآنهم يمدُّون أيديهم لسائر أتباع الشرائع الإلهية الأخرى بكلِّ احترام وإجلال، فهل تمتدُّ الأيدي من هؤلاء الأتباع، ليردُّوا لهم التحيَّة بمثلها ويتَّحد العالم في ظلِّ شجرة الأنبياء، ويتعاون جميع أبناء الأسرة العالمـيَّة على خير الإنسانية، بينما يقف روَّادها الشجعان بوجه الإلحاد الَّذي بدأ يستشري في العالم؛ فيَحُولون دون مدِّه، ويرفعون راية السَّلام خفَّاقةً عالية في أنحاء المعمورة؟. إن التاريخ سوف يسجِّل لهؤلاء الروَّاد الشجعان موقفهم ونضالهم، كرسل للسلام وبناة لصرح التآخي الإنساني، وفي ظلال هدي السماء، الَّذي يَعُدُّ الناس جميعاً إخوة، فلا عداوة ولا بغضاء ولا حروب ولا كفر ولا وثنيَّة، بل تآخٍ وتعاون، وإيمان بالخالق الواحد لهذا الكون، والمدبِّر لأمر مخلوقاته كلِّها.