آيات قرآنية

داود عليه السَّلام

سورة سبأ(34)

قال الله تعالى: {ولقد آتينا داوودَ مِنَّا فضلاً ياجبالُ أَوِّبِي معهُ والطَّيرَ وَأَلَـنَّا له الحديدَ(10) أنِ اعملْ سابغاتٍ وقَدِّرْ في السَّردِ واعملوا صالحاً إنِّي بما تعملون بصير(11)}

ومضات:

ـ إن لله تعالى أعطيات خاصَّة يمنحها لعباده المصطَفَيْن، وداود عليه السَّلام كان واحداً من هؤلاء العباد؛ فقد وهبه الله تعالى من عذوبة الصوت، ودموع العاشق المتفجِّرة، وأنين المحبِّ الملوَّع، ما أثَّر في الجبال والطير فجعلها ترجِّع وتردِّد تسبيحه لله وتمجيده.

ـ لقـد أُعْطِيَ داود عليه السَّـلام ـ إلى جانب ما سبق ـ علماً متقدِّماً في الصناعة الحربية المتطوِّرة.

في رحاب الآيات:

تُجْمِع الروايات على أن داود عليه السَّلام قد أوتي صوتاً جميلاً عذباً، كان يرتِّل به مزاميره؛ وهي تسابيح دينية، ورد منها في كتاب العهد القديم ما الله أعلم بنسبته. وفي الصحيح «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ في الليل فوقف واستمع لقراءته ثمَّ قال: لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير داود».

والآية تصوِّر فضل الله تعالى على داود عليه السَّلام، إذ أنه بلغ من الشفافية والتجرُّد في تسابيحه درجة انزاحت معها الحجب بينه وبين كثير من الكائنات، فاتَّصل دعاؤه وتضرُّعه مع دعائها وتضرُّعها، ورجَّعت معه الجبال والطير، إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز، فاتصلت جميعها بالله صلة واحدة، وعادت عن طريق ذكره إلى حقيقتها اللدُنِّية فإذا بها تتجاوب في تسبيحها للخالق، وتتلاقى في نغمة واحدة، وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرُّد لا يبلغها أحد إلا بفضل الله تعالى. وحين انطلق صوت داود عليه السَّلام يرتِّل مزاميره ويمجِّد خالقه، تجاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد، المتجه إلى بارئه الواحد... وإنها للحظات عجيبة لا يعرف قدرها إلا من عايشها، وذاق حلاوتها ولو لحظة في حياته.

وممَّا أفاض الله تعالى على نبيِّه داود من النعم؛ أَنْ أَلانَ له الحديد وعرَّفه كيفيَّة استعماله. وقد جاءت هذه الآيات الكريمة لتشير إلى مادة الصناعة الأوليَّة وهي الحديد لدراستها والاستفادة من تطبيقاتها في الحياة العملية، وليس كما فعل كثير من المسلمين حيث اكتفَوْا بالتبرُّك بهذه الآيات وحُسْنِ تجويدها والطرب لقارئها. إنها تعطينا درساً في حسن استخدام ما أودعه الله لنا في الطبيعة من الطاقات والقوى والمعادن لنكون في مقدِّمة الأمم حضارةً ومدنيَّة، لأن الدِّين لا ينافي علوم الحياة بل يأمر بها ويسيران معاً خطوة بخطوة ويداً بيد ليحقِّقا سعادة البشرية جمعاء. وهذا ما فعله سلفنا الصالح حيث أخذوا ما عند الأمم المتحضِّرة من مدنية وعلوم وزادوا عليها، انطلاقاً من الفهم السديد لآيات القرآن الكريم الكثيرة، الَّتي تلفت الأنظار للسير في هذا المضمار، ومنها ما نحن بصدد بيانه من آيات بيِّنات.

وفي ظلِّ هذا السياق يبدو أن داود عليه السَّلام هو أوَّل من اكتشف خواصَّ جديدة للحديد بفضل الله وإلهامه له، وأنه يمكن تليينه وتسخيره للصناعات المدنية والحربية. فصنَّع منه الـدروع وآلات الحرب على أتمِّ النظم وأحكم الأوضاع. وروي أن الدروع قبله كانت تُصنَّع مصفَّحة، فكانت تُصلِّب الجسم وتثقِّله، فألهم الله داود أن يصنِّعها رقائق، أو حلقات متداخلة متموِّجة ليِّنة، يسهل تشكيلها وتحريكها بحركة الجسم، وأمره بتضييق هذه الرقائق والحلقات لتكون محكمة لا تنفذ منها الرماح والسهام، وكان الأمر كلُّه إلهاماً وتعليماً من الله عزَّ وجل.

ولا يخفى على كلِّ ذي بصيرة، الروح المسالمة القويَّة الَّتي يوجِّه إليها‍ القرآن الكريم، فقد ذكر صناعة الدروع وهي سلاح دفاعي ولم يذكر صناعة الرماح وما شاكل من الأسلحة الهجومية، إشارة إلى أن المؤمن لا ينبغي له أن يبدأ غيره من عباد الله بالاعتداء والهجوم، بل عليه أن يسالم من يسالمه، فإذا اختار الطرف الآخر العداء والحرب، فلا يواجه ضعفاً، بل يجد قوَّة تردعه وتردُّه إلى الصواب.

 

سورة ص(38)

قال الله تعالى: {ياداوودُ إنَّا جعلناكَ خليفةً في الأَرضِ فاحكم بين النَّاسِ بالحقِّ ولا تتَّبع الهوى فيُضِلَّك عن سبيل الله إنَّ الَّذين يَضِلُّون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديدٌ بما نَسُوا يومَ الحساب(26)}

ومضات:

ـ تتضمَّـن هـذه الآية تـوجيهاً إلهيّاً للنبي داود عليه السَّلام ـ حين كان يمثِّل رأس السلطة الروحية والسياسية في دولته ـ بأن يحسن تمثيل خلافته لله تعالى في أرضه وفي تصريف قضايا الرعية بالحقِّ والعدل، كما تحمل هذه الآية تحذيراً له من أن يجرفه الهوى فيميل إلى خصم دون آخر، ويُصدر أحكاماً غير موضوعية أو مجحفة بين الناس.

ـ إن من يجور في حكمه بين الناس، بعيد عن طريق الله عزَّ وجل، وله العذاب الشديد لتناسيه يوم المحاكمة الإلهية.

في رحاب الآيات:

إن وجود الإنسان في موقع المسؤولية تجاه الآخرين أمر بالغ الخطورة والأهميَّة، لاسيَّما إذا كانت مصائر الناس مرتبطة بسلوكه وطريقة إدارته للأمور. وقد أَوْلى الإسلام موضوع الحكم والحاكم الكثير من الاهتمام، لما له من دور في تحريك شؤون الناس، سواء في أمنهم وحسن استقرارهم، أو في أرزاقهم ومعاملاتهم.

فالحاكم خليفة الله في الأرض، وعليه أن يراقبه في شؤونه الخاصَّة والعامة؛ لأن مراقبة الله تعالى تبقيه في دائرة الحقِّ، فلا يحكم إلا بالعدل، سواء على نفسه أو على الآخرين، كما أنها تثبِّته على الصراط المستقيم، فلا هوى يبعده عن الله، ولا حاشية سوء تخرجه عن منهجه، فتتلاشى المؤثِّرات الخارجية وتبقى التوجيهات الإلهية لتكون المنارة لكلِّ من تولَّى مسؤولية أو تحمَّل أمانة. وداود عليه السَّلام واحد من الَّذين استخلفهم الله في الأرض، وأناط بهم هذه المهمَّة الشاقَّة، لذلك نراه يرسم له خطَّة العمل الَّتي إن سار عليها هو ومن بعده من الحكَّام فلن يضلُّوا، وتتلخص باتِّباع الحقِّ في الحكم بين الناس، وعدم الميل مع هوى النفس، لأن اتِّباع الهوى يصرف الحاكم عن تصريف أمور الرعية بالحقِّ، فيتفشى الظلم والاستغلال والرشوة، والفساد والإفساد بين أفراد المجتمع.

والله تعالى يكشف الحجاب عن الخاتمة التعيسة لمثل هذا الحاكم، والعذاب الإلهي المتربِّص به، ليراها الناس جميعاً، كلٌّ في موقعه، فيلتزموا جانب الحذر والحيطة، ويرتفعوا بأنفسهم عن مواطن الشُّبُهات، ويلتزموا طريق الله الَّذي يوصل إلى السعادة والأمن، ويبتعدوا عن الطريق المتعرِّج، المليء بالحُفَر والمزالق، الَّتي تهوي بمن سار عليها قبل أن يصل إلى نهاية الدرب.

حقاً لقد منَّ الله على الإنسان في هذه الأرض بشرعه الحنيف من أجل أن يسعده السعادة الحقيقية في الدارين، وقد أَمَرَنا أن ندعوه، قولاً وعملاً، ليحقِّق لنا هذه الغاية بقوله: {..ربَّنا آتِنَا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنَا عذابَ النَّار} (2 البقرة آية 201).