آيات قرآنية

إبراهيم عليه السَّلام

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {وكذلك نُري إبراهيمَ مَلكُوتَ السَّمواتِ والأَرضِ وَلِيكونَ من المُوقنين(75) فلمَّا جَنَّ عليه اللَّيلُ رأى كوكباً قال هذا ربِّي فلمَّا أَفَلَ قال لا أُحبُّ الآفِلِين(76) فلمَّا رأى القمرَ بازِغاً قال هذا ربِّي فلمَّا أَفَلَ قال لَئِن لَمْ يَهدِنِي ربِّي لأَكوننَّ من القومِ الضَّالِّين(77) فلمَّا رأى الشَّمس بازِغةً قال هذا ربِّي هذا أكبرُ فلمَّا أَفَلَت قال ياقومِ إنِّي بريءٌ مِمَّا تُشركون(78) إنِّي وجَّهت وجهيَ للَّذي فطَرَ السَّمواتِ والأَرضَ حنيفاً وما أنا من المشركين(79)}

ومضات:

ـ في أعماق الإنسان نوازع فطريَّة تجعله يحنُّ إلى خالقه، ويبحث عن موجده، ولا يهدأ روعه ولا يسكن فؤاده حتَّى تتلقَّح روحه بطائف نوراني إلهي يركن إليه، ويعطيه المعرفة والثقة والأمان بالله الفرد الصمد.

ـ كان كثير من الناس ـ وخاصَّة في عهد إبراهيم عليه السَّلام ـ يتوهَّمون أن مطلق السيطرة والغلبة، لمخلوقات عظيمة لها فاعليَّتها في الكون، كالشمس والقمر والكواكب، تكفي ليتَّخذوا منها آلهة، بينما اتَّخذ الآخرون من الأصنام آلهة لهم لتقرِّبهم إلى ربِّهم، مغلقين بذلك عقولهم، ومُصِمِّين أسماعهم عن دعوات الرسل، الَّتي جاءت لتعرِّفهم بالإله الحقيقي المتصرِّف في هذا الكون.

ـ حلَّق إبراهيم عليه السَّلام جهد تفكيره في الكون المادي {ملكوت السموات والأرض}، وأوصله إخلاصه وتحرَّقه القلبي إلى الَّذي {فطر السموات والأرض}.

ـ خاف إبراهيم عليه السَّلام على نفسه أن يعيش بين القوم الضَّالِّين المشركين العابدين للأوثان {وما أنا من الـمُشركين}.

ـ أفول الكواكب أمر عادي يشاهده إبراهيم عليه السَّلام كلَّ يوم.. ولكن حين نظر إليها كقوَّة مدهشة يمكن تعبُّدها..، شعر بنقصانها وعدم اكتمالها؛ وهذا هو المعنى الحقيقي للأُفول.

 

في رحاب الآيات:

تستقر في أعماق كلٍّ منَّا فطرة التوحيد الَّتي فطرنا الله عليها منذ اللحظة الأولى الَّتي أَوْجَدَنا فيها. ومع بداية تفتُّح المدارك لدى الإنسان، تشرع كلٌّ من الروح والنفس بالدوران حول نواة الإيمان، وكلَّما اقتربتا من جوهره حصل الاستقرار والسَّكِينة والطُّمأنينة، وكلَّما ابتعدتا عنه حصل الاضطراب والحَيْرة والشَّتات. ولقد أكَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجود هذه الفطرة في الناس عامَّة فقال: «ما من مولود إلا ويولد على الفطرة» (رواه الستة إلا النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

وهذه الفطرة، هي الَّتي تجذب الإنسان نحو خالقه الَّذي خلقه وخلق الأكوان وما فيها، وهي الَّتي تدفعه إلى الإيمان به، وإلى اليقين بأن حياته في هذا الكون، ما هي إلا مقدِّمة لحياة أبديَّة خالدة في عالم آخر، تُردُّ فيه المخلوقات إلى ربِّها؛ فتجد عنده ما ضاع منها في حياتها الأولى. ومثل هذه الحقيقة يتمكَّن من إدراكها والإيمان بها كلُّ من أوتي فكراً سليماً، ونظراً صائباً. فهي كامنة في أصل الفطرة الَّتي فطر الله الإنسان عليها، ليعرفه ويجتهد في البحث عنه والوصول إليه، ولينعم بالسَّعادة الَّتي لا يجدها إلا في التَّعاليم الإلهيَّة الملائمة للفطرة، وعلى رأس هذه التعاليم توحيد الله وإفراده بالعبوديَّة والتمجيد. فالتوحيد أسمى غايات المعرفة؛ على أساسه تقوم التكاليف، وحول محوره تدور رحى الرسالات السماوية، ومنه انطلق الأنبياء في دعوتهم للبشرية، وفي مقدِّمتهم إبراهيم عليه السَّلام الَّذي وردت قصته في القرآن الكريم بإسهاب وتفصيل، شمل جوانب عديدة من حياته، فكان نموذجاً مثاليّاً للبشريَّة؛ في إيمانه بالله وتوحيده له، ذلك الإيمان الَّذي ارتقى به إلى أعلى المقامات والرُّتب، حتَّى صار (خليل الله) فكُشف له عن ملكوت السموات والأرض، فرآهما عياناً، فازداد بالله يقيناً، ولقدرته وعظمته إكباراً {..وكذلك نُري إبراهيمَ مَلكوتَ السَّمواتِ والأَرضِ وَلِيكون من المُوقِنين}.

والآيات الكريمة الَّتي نتناولها في بحثنا هذا، تعطينا صورة من بدايات حياة إبراهيم عليه السَّلام الَّتي كانت تأمُّلاً عميقاً للحياة والأحياء من حوله، ورؤية ثاقبة لما كان القوم عليه من حال تستدعي الدَّهشة والعجب؛ إنهم يعبدون آلهة شتَّى؛ اعتقدوا فيها القوَّة والسيطرة، وزعموا بأنها قادرة على جلب النفع لهم، ودفع الضرِّ عنهم، والأعجب من هذا، أن بعضاً منها صُنع بأيديهم، فكيف ارتضوها آلهة وعبدوها؟!.

وكثيراً ما كان هذا الواقع يدفع إبراهيم للخلوة بنفسه مراراً، فتمرُّ عليه لحظات هي من أثمن اللحظات وأصدقها؛ لما في الخلوة من رؤية حقيقيَّة للذَّات، بعيداً عن رقابة الآخرين، الَّتي قد تدفع بعض الناس إلى المراءاة والمخادعة أو المداراة، وقد تمرُّ هذه اللحظات في عمر الإنسان مرَّة فتُقَدَّرُ قيمتها بالعمر كلِّه، وقد لا تحدث أبداً فتكون الخسارة الكبرى. ونتيجة لخلوة إبراهيم عليه السَّلام، فقد كانت فطرته تثور عليه، وتدفعه إلى البحث والتأمُّل في ملكوت السموات والأرض، ليهتدي إلى الإيمان بالإله الحقِّ، الجدير بالألوهيَّة، والمستحقِّ للعبوديَّة. فعندما تفكَّر فيما يعبد قومه من آلهة حجريَّة صنعوها بأيديهم، أنكرها ورفضها، ولما تأمَّل آلهتهم الأخرى، وهي الكواكب تريَّث عندها قليلاً، وقلَّب ناظريه في السماء، وأجال الطَّرْف في أرجائها، فإذا الليل قد أقبل ليكتسح النهار، وإذا بالظلام يلفُّ الضِّياء ويطرده، إنه ليل من نوع فريد، ليل يخُصُّ إبراهيم وحده، ويستره عن عيون الخلائق. وفي جوف الليل يحلو التأمُّل، وتحلو الخلوة مع النفس، ويشعر الإنسان بعذوبة النَّجوى، حيث لا تَسمع نَأْمَةً ولا حركة سوى دقَّات قلبٍ تبحث عمَّن نفخ فيه الحياة. فلما رأى إبراهيم في تلك الليلة كوكباً منيراً يُطِلُّ من عليائه، قال هذا ربِّي، ثمَّ أخذ يتابع الكوكب حتَّى غـاب وزالت معالمه، عندها تساءل كيف أعبد كوكباً يطلع ويغيب، ويظهر ثمَّ يختفي؟ ومن سيرعى أمرنا، ويدبِّر شؤوننا إن هو غاب؟! ولما بدا له القمر مشرقاً متلألئاً، وكأنَّه يرمق الكون بنظراته الصَّافية، فيُضفي عليه جمالاً أخَّاذاً فقال: هذا ربِّي، فلما سحب القمر خيوطه الفضيَّة ومضى وغاب، كما غاب الكوكب قبله، قال: ما هذا بإله! ولئن لم يهدني ربِّي، ويوفِّقني إلى إصابة الحقِّ في توحيده، لأكوننَّ من الضالِّين الضَّائعين في عبادتي لغيره.

ومع بُزوغ فجر اليوم التالي، حيث أخذت الشمس تتوقَّد وترسل أشِعَّتها الذهبيَّة على الكائنات، وقع بصر إبراهيم عليها ونظر متأمِّلاً؛ إنها من أعظم النجوم المرئيَّة، وأكثرها نفعاً للمخلوقات، وأشدِّها نوراً وإشراقاً فقال: هذا ربِّي، ولكن الشمس سُرعان ما توارت وراء الأفق، وغابت كما غاب غيرها... عندها شعر ببراءته من عبوديَّة هذه الأجرام، فالطبيعة بكلِّ أجزائها مخلوقة مسلوبة الإرادة، عاجزة عن التعبير، لا يمكنها التفلُّت من الوظائف الَّتي أناطها خالقها بها، أو تغيير وظائف مَنْ حولها، ولا تملك القدرة على الخلق والإيجاد..، لذا أعلن إبراهيم عليه السَّلام هذه البراءة من عبادة القوى والظواهر الَّتي تحيط به، واتجه إلى عبادة الله البارئ المصوِّر لكلِّ هذا الوجود وما فيه من موجودات، وذهب يعرِّف قومه بالإله الحقيقي الَّذي لا يغيب ولا يغفَل ولا ينام، وأخذ لسانه يعبِّر عن مكنونات أحاسيسه الفطريَّة، فقال لهم: إني بريء ممَّا تعبدون، ثمَّ توجَّه إلى الله بكلِّ كيانه ومشاعره مخلصاً له الحبَّ، ومعترفاً له بالربوبيَّة، ومتبرِّئاً من الشرك والوثنية فقال: {إنِّي وَجَّهتُ وجهيَ للَّذي فطَرَ السَّمواتِ والأَرضَ حنيفاً وما أنا من المشركين} إنه النَّهْج الَّذي سار عليه جميع الأنبياء، والعهد الَّذي وثَّقوه، والوعد الَّذي وفـَّوا به، لتكتمل بذلك قصَّة الإيمان.

فينبغي على المؤمن في كلِّ زمان ومكان أن يقرأ قصَّة الإيمان هذه مستخلصاً عِبَرَها ليدحض بها مزاعم الملحدين وافتراءات المكذِّبين، لأنه يتبيَّن من خلالها أن العقل السليم لا ينافي الفطرة السليمة بل يوافقها ويؤازرها؛ لأن مؤدَّاها الإذعان الفطري، بالألوهيَّة، لخالق الكون، وهذا الإذعان مستقرٌّ في دخيلة كلِّ نفس بريئة من شوائب العقائد الضالَّة، الَّتي قد يتأثَّر بها مَن يعيش في مجتمع ضال.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {وإذ قال إبراهيمُ ربِّ أَرِنِي كيف تُحْيي الموتى قال أَوَ لَم تُؤمِن قال بلى ولكن لِيَطمَئِنَّ قلبي قال فَخُذ أربَعَةً منَ الطَّيرِ فَصُرهُنَّ إليكَ ثمَّ اجعل على كلِّ جبلٍ منهُنَّ جُزءاً ثمَّ ادعُهُنَّ يَأتِينَكَ سَعياً واعلَم أنَّ الله عَزيزٌ حَكِيمٌ(260)}.

ومضات:

ـ تكوَّن لدى إبراهيم الخليل عليه السَّلام شعورٌ مُلِحٌّ غزا قلبه وفكره في بداية معرفته لله وإيمانه به، فكان يتطلَّع بشغف إلى أن يرى بعينه صورةً من صور القدرة الإلهية.

ـ لم يكن سؤال إبراهيم عليه السَّلام ناشئاً عن شكٍّ أو ريب في قدرة الله على الإحياء، بل كان الدَّافع الَّذي حمله على ذلك، هو رغبته في مشاهدة صورة من صور الإعجاز الإلهي ليصل إلى كمال اليقين. فأجابه الله لطلبه، وأراه عياناً ما سأل، فسكن فؤاده بعد هذه الرؤية وازداد بالله يقيناً واطمئناناً.

في رحاب الآيات:

تتحدَّث هذه الآيات عن إبراهيم، الإنسان المفكِّر، ذي العقل الناضج، الَّذي تأمَّل ظواهر الكون، بُغْيَةَ الوصول إلى معرفة خالقه، وأدرك بقوَّة بصيرته، استحالة نسبة الألوهيَّة لكوكب ما أو شمس أو قمر، فما هذه المخلوقات إلا دلائل على وجود الخالق وعظمته.

ولمَّا أُكْرِمَ هذا الإنسان بالنبوَّة، بقي عقله في حالة توقُّد فكري، فكان يسعى لشهود واقعة إعجازيَّة تروي ظمأه، وتجيب عن تساؤلات كثيرة كانت تدور في خَلَدِه، فكان بينه وبين الله عزَّ وجل ذلك الحوار العذب، الَّذي بدأه إبراهيم عليه السَّلام أوَّلاً بالتقرُّب والتحبُّب إلى مولاه بقوله: {ربِّ} فاختار هذه الكلمة وناجى بها ربَّه، لأنها تعبِّر عن صدق الشعور بالولاء المطلق لله وإنعامه التَّام على مخلوقاته. ثمَّ رفع إليه حاجته بقوله: {أَرِنِي كيف تُحيي الموتى}، فهو يتوق إلى مشاهدة كيفيَّة الإحياء، ليتوِّج بها إيمانه الجازم بالقدرة الربانيَّة، ويريد أن يدرك بالعيان ما أدركه بالجَنان. ولذلك سأله المولى ـ عزَّ وجل ـ وهو أعلم بحاله: {أَوَ لم تؤمن؟} أي ألست تصدِّق بقدرتي على الإحياء؟ فيجيب إبراهيم بكلِّ ما أوتي من اليقين، أَنْ بلى قد صدَّقت، ولكن قلبي الَّذي تتنازعه نيران الشوق إلى معرفة المزيد والمزيد عن قدرتك، يتوق لشهود صنعتك، لِتَنْصَبَّ فيه برودة اليقين والتسليم، فيهدأ ويستكين حيث يبلغ الإيمان ذروته.

وفي جواب الله تعالى لإبراهيم عليه السَّلام {أَوَ لم تؤمن؟} تنبيهٌ إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده، ولا يتعدَّاه إلى ما ليس من شأنه، بالإضافة إلى أن الإيمان الحقيقي هو الإيمان بالغيبيات الَّتي لا سبيل للعقل إلى إدراكها بوسائله الحسيَّة، ولهذا فإن الإيمان بقدرة الله على إحياء الموتى، شأنه شأن الإيمان بسائر الغيبيات،?وهو غاية ما يُطلب من البشر، كلٌ في حدود زمانه، إلا أن هذا لا يعني إغلاق باب العقل والتفكير. وبما أن إبراهيم عليه السَّلام هو خليل الله وصفيُّه، فها هو سبحانه يجيبه إلى طلبه، ويأمره بأن يأخذ أربعة طيور يضمُّهنَّ إليه ثمَّ يقطِّعهُنَّ ويخلط بعضهنَّ ببعض ليصبحن مجموعة واحدة، ثمَّ يفرِّق أجزاءهن على رؤوس الجبال، فينفِّذ الخليل أمر الله، ثمَّ يناديهن فيأتين إليه فوراً. وهكذا رأى إبراهيم عليه السَّلام السرَّ الإلهي يتحقَّق بين يديه، وتحت سمعه وبصره؛ فكان درساً بليغاً مؤثِّراً في إبراهيم وفي كلِّ مَنْ بَلَّغَ بعْدَه، أثمر اليقين بتفرُّدِ الله المطلق في إحياء الموتى، وأنه سبحانه على كلِّ شيء قدير.

وفي حلقة أخرى من حلقات حياة إبراهيم عليه السَّلام، يقصُّ الله علينا صورة من صور الصراع الَّذي فرضه عليه قومه، ممَّا أدَّى إلى هجرته في سبيل الله، تاركاً موطنه بعد أن يئس من إيمانهم، كما أنه يعرض قصَّة الأمر بذبح ولده إسماعيل، الَّتي نستشفُّ منها مدى صدقه وتصديقه؛ فيقول تعالى: {وقال إنِّي ذاهبٌ إلى ربِّي سَيَهدين * ربِّ هَبْ لي من الصَّالحين * فبشَّرناه بغلامٍ حليم * فلمَّا بَلَغَ معهُ السَّعيَ قال يابُنَيَّ إنِّي أرى في المنامِ أنِّي أذبحُكَ فانْظرْ ماذا ترى قال ياأبتِ افْعل ما تُؤْمر ستجدني إن شاءَ الله من الصَّابرين * فلمَّا أَسْلَما وتَلَّه للجبين * وناديناه أَنْ ياإبراهيمُ * قد صدَّقتَ الرؤيا إنَّا كذلك نَجزي المحسنين * إنَّ هذا لَهُوَ البلاءُ المبين * وفديناه بذِبحٍ عظيم * وتركنا عليه في الآخِرِين * سلامٌ على إبراهيم * كذلك نَجزي المحسنين * إنَّه من عبادنا المؤمنين} (37‍ الصافات آية 99ـ111).

ومضات:

ـ بعد صراع إبراهيم عليه السَّلام المرير مع قومه من أجل هدايتهم إلى عقيدة التوحيد، وبعد أن يئس من إيمانهم، قرَّر الهجرة من ديار الجهل والظلم إلى ديار الحريَّة والأمن.

ـ رغب إبراهيم عليه السَّلام في أن تظلَّ بركة النبوَّة سارية في ذريَّته، فدعا الله عزَّ وجل أن يرزقه غلاماً صالحاً يتابع مسيرة الإيمان والدعوة من بعده، فاستجاب تعالى له، وحقَّق له مراده؛ ووهبه على الكِبَرِ إسماعيل.

ـ لمَّا كبر الغلام وقوي ساعده ليشُدَّ أزر والده في عمل البناء والدعوة، والسعي إلى ترسيخ عقيدة التوحيد، تراءى له أن يذبح ولده إسماعيل ويقدِّمه قرباناً لربِّ العالمين؛ وامتثل كلاهما للأمر، بتسليم كامل، ورغبة صادقة؛ عندها نالا عليهما السَّلام الشهادة الإلهيَّة بالصدق، والمسارعة إلى التنفيذ، وعندها فدى الله تعالى إسماعيل بذِبح عظيم ليُذبح بدلاً عنه.

ـ بهذا الإخلاص الرائع استحقَّ إبراهيم عليه السَّلام، الذكرى الخالدة العطرة، في سائر الرسالات السماويَّة، وعلى مرِّ الأجيال والعصور، تقديراً وتكريماً له من ربِّ العالمين، لأن إيمانه كان يعدل إيمان أمَّة مؤمنة قولاً وعملاً، قال تعالى: {إنَّ إبراهيمَ كان أُمَّةً قَانِتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركين * شاكراً لأَنْعُمِهِ اجتباهُ وهداهُ إلى صراطٍ مُستقيم * وآتيناهُ في الدُّنيا حسنةً وإنَّه في الآخرةِ لَمِن الصَّالحين} (16 النحل آية 120ـ122).

في رحاب الآيات:

لقد تعرَّض إبراهيم عليه السَّلام لألوان من الاضطهاد أنزلها به قومه، وبلغ ذلك الاضطهاد ذروته عندما عزموا على إحراقه بالنار: {قالوا ابْنُوا له بُنْيَاناً فَأَلقوهُ في الجحيم} (37 الصافات آية 97) فلما مكروا به، مكر الله بهم وأنقذه من النار الَّتي أضرموها، ففقدت خاصيَّتها في الإحراق بمجرَّد خطاب الله لها: {قُلنا يانارُ كُوني بَرْداً وسلاماً على إبراهيم} (21 الأنبياء آية 69) وبذلك تجلَّت قدرة الله على خرق العوائد، وعظيم رحمته وتأييده لخليله ولكلِّ من والاه، فلم يتخلَّ عنه ولم يجعل للنار عليه أدنى تأثير أو أذى.

ثمَّ قرَّر إبراهيم عليه السَّلام ـ بعد أن لاقى ما لاقى ـ الابتعاد عن قومه الظَّالمين له ولأنفسهم، فهاجر إلى ديار السَّلام والأمن، وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية، هجرة يترك فيها كلَّ شيء: أباه، قومه، أهله، بيته، ووطنه، ويدع كلَّ عائق وكلَّ شاغل، فيهاجر إلى ربِّه متجرِّداً من كلِّ شيء، مُسلِّماً أمره إليه، وهو موقن أنه سيهديه، ويسدِّد خطاه، ويثبِّتها على الطريق المستقيم. إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن أواصر شتَّى إلى آصرة واحدة، لايزحمها في النفس شيء، إنه التعبير عن التجرُّد عمَّا سوى الله، والاستسلام لأمره، واليقين بتأييده ونصره.

وكان إبراهيم عليه السَّلام حتَّى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له، وهو يترك وراءه الأهل والأصحاب، فاتَّجه إلى ربِّه وسأله أن يهبه غلاماً صالحاً، يستعين به من أجل تبليغ الدعوة، وحمل لواء الرسالة من بعده، فاستجاب الله دعاء عبده الصالح، المهاجر إليه بقلب سليم، وأكرمه بغلام عاقل حليم، فربَّاه أحسن ما يُرَبِّي به نبيٌّ ولده، من حسن الطاعة والأخلاق الفاضلة.

ولنا أن نتصوَّر فرحة إبراهيم عليه السَّلام، الوحيد المهاجر المقطوع عن أهله وقرابته، عندمـا رُزق ـ على الرُّغْم من كِبَرِ سنِّه وشيخوخته ـ بغلام طالما تطلَّع إليه وتمنَّاه، وكان غلاماً متميِّزاً، ويشهد له ربُّه بأنه حليم. ولَكِنْ ما كاد يأنس به ويرى صباه يتفتَّح، ويرافقه في الحياة، ويشاركه في السعي، حتَّى رأى في منامه أنه يذبحه. ويدرك إبراهيم عليه السَّلام أنها إشارة من ربِّه للتضحية، لأنَّ رؤيا الأنبياء حقٌّ وصدق، فماذا كان من أمر هذا الأب؟ إنه لم يتردَّد، ولم يخالجه إلا شعور الطاعة، ولم يخطر له إلا خاطر التسليم لإرادة الله بمجرَّد الإشارة، لا الوحي أو الأمر المباشر، فهذا يكفيه كي يقدِّم لله أنفس ما عنده، ويجد بذلك أنه لم يقدِّم شيئاً، لأن ما قدَّمه إنْ هو إلا مُلْكٌ لله تعالى. ثمَّ يعرض الرؤيا على ولده إسماعيل في كلمات العاقل الحكيم، المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الَّذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدِّي واجبه، فيقول: {يا بنيَّ إنِّي أرى في المنامِ أنِّي أذبَحُكَ فانظر ماذا ترى} فهو يعرض عليه الرؤيا، ولم يقلْ له بأنه أُمِرَ بذلك ليعلم مدى تقبُّله لمضمون الرؤيا، وليعلم مدى صبره على التنفيذ، وليأخذ الطلب طاعة واستسلاماً، لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة ولذَّتها، ويتذوَّق حلاوة التسليم. إنه يحبُّ لابنه أن يفوز بالخير الَّذي يراه أبقى من الحياة؛ فماذا كان من أمر الغلام الَّذي يُعرض عليه الذبح تصديقاً لرؤيا والده؟؟ إنه امتحان إلهي ليمحِّص إيمان الوالد وولده، الوالد يرى الرؤيا فيسرع لإخبار ابنه بها دون تردُّد، والولد يلبِّي طائعاً آخذاً الرؤيا كأمر إلهي، ويسلِّم للذَّبح ويقول: يا أبتِ امضِ لما أمرك الله به، فستجدني إن شاء الله صابراً. إنه جواب من أوتي الإيمان اليقيني والحلم والصبر والرضا بقضاء الله وقدره، والقدرة على امتثال الأمر، فلمَّا صدق فيما وعد، أثنى الله عليه قائلاً: {واذكر في الكتابِ إسماعيلَ إنَّه كان صادقَ الوعد..} (19 مريم آية 54) وفي قوله: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} نلاحظ أدبه مع الله والاستعانة به على ضعفه، والتبرُّء من حوله وقوَّته والاستمداد من حول الله وقوَّته، وإرجاع الفضل كلِّه لله إن هو أعانه على ما يطلب منه، وصبَّره على ما يُرَاد به.

ويخطو المشهد بنا خطوة أخرى تلي الحوار والكلام، ليصل إلى الفعل والتنفيذ... ومرة أخرى يرتفع نُبْلُ الطاعة، وتعلو قوَّة الإيمان، وطمأنينة الرِّضا فوق كلِّ ما تعارف عليه بنو الإنسان. إن الأب العطوف الرحيم يمضي فيكبُّ ابنه على جبينه استعداداً، وإنَّ الغلام يستسلم فلا يتحرَّك امتناعاً، وقد كاد الأمر أن يصبح حقيقةً وعياناً؛ لقد أسلما، أي استسلما، وانقادا لأمر الله، وفوَّضا إليه الأمر سبحانه، وهذا هو الإسلام والاستسلام في حقيقته، ثقة وطاعة، ورضا وتسليم، وتنفيذ واطمئنان، وكلٌّ منهما ــ الأب والابن ـ لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر، الَّتي لا يمكن أن يصنعها غير الإيمان العظيم. والحكمة من ذلك كلِّه، أن الله اتَّخذ إبراهيم خليلاً، فلما سأل ربَّه الولد ووهبه له، تعلَّقَتْ شُعبة من قلبه بمحبَّة ولده، فأُرِيَ ذبح هذا المحبوب ليظهر صفاء الخُلَّة، فامتثل أمر ربِّه وبذلك قدَّم محبَّة الله على محبَّة ولده. وفي أدقِّ لحظات الامتحان يأتي النداء من قِبَلِ الله تعالى لإبراهيم، أن قد صدَّقتَ الرُّؤيا، وحصل المقصود منها بإضجاعك ولدك للذبح، فقد تحقَّق امتثالك للأمر وطاعتك، و(أن) هنا تحمل العتاب وتوقيف الفعل. ثمَّ قال تعالى: {إنَّا كذلك نَجزي المحسنين} نجزيهم على مسارعتهم إلى الإذعان لمثل هذا الابتلاء، وتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء، وتصبيرهم على الأداء، ونجزيهم كذلك باستحقاق الثواب والعطاء.

ولا يخفى أن الله تعالى لا يريد الذَّبح حقيقة، لأنه سبحانه حرَّم القتل، وتوعَّد عليه بأشدِّ العذاب، فالله لا يأمُرُ بالفحشاء ولا بالمنكر، وإنما أراد سبحانه تطهير قلب إبراهيم خليله، من محبَّة ما سواه، فلما باشر إبراهيم عليه السَّلام ما يُنتج ذلك، وتحقَّقت الغاية من الرؤيا، تدخَّلت العناية الإلهية في اللحظة المناسبة، لتنهي هذا الامتحان الرَّهيب، معلنة نجاح التلميذين النجيبين (الأب والابن) بامتياز منقطع النَّظير؛ فيفتدي الله تعالى إسماعيل بذِبْحٍ عظيم القدر، وإنما عَظُم قدره لأنه فداء لإسماعيل من الذبح. ومضت بذلك سُنَّة النَّحر في عيد الأضحى، إحياءً لذكرى هذا الحادث العظيم، الَّذي يرتفع منارةً لحقيقة الإيمان، وجمال الطَّاعة، وعظمة التسليم، والَّذي ترجع إليه الأمَّة المسلمة لتعرف منزلة أبيها إبراهيم عليه السَّلام، ولتعرف أن ربَّها لا يريد أن يعذِّبها بالابتلاء، إنما يريدها أن تأتيه طائعة، ملبِّية، فإذا أكَّدت صدق القول بمباشرة أسباب الفعل ومقدِّماته أعفاها من التَّضحيات والآلام، وأكرمها كما أكرم أباها من قبل. وهذا هو الابتلاء والاختبار الشَّاق الَّذي يتميَّز فيه المخلص عن المنافق.

وقد شكر الله لإبراهيم صدقه، فرفع ذكره بين الناس على اختلاف مللهم ومذاهبهم؛ فاليهود يُجِلُّونه، والنصارى يعظِّمونه، والمسلمون يبجِّلونه، وذلك مكافأة على صدقه، واستجابة لدعوته حين قال: {واجعل لي لسانَ صِدْقٍ في الآخِرِين} (26 الشعراء آية 84). ثمَّ ذكر تعالى أنه مَنَّ عليه مِنَّة ثانية فقال: {سلامٌ على إبراهيم} سلامٌ من ربِّه يُسَّجل في كتابه الباقي، ويُرْقَم في حنايا الوجود، لأنه كان من الراسخين في الإيمان مع اليقين والاطمئنان. وقد أتمَّ الله عليه فضله ومنَّته، عندما أكرمه بأعلى المقامات وأشرفها، فمنحه رتبة (خليل الله) الَّتي ورد وصفه بها بقوله تعالى: {ومَنْ أحسنُ ديناً مِمَّن أسلمَ وجههُ لله وهو محسنٌ واتَّبع مِلَّةَ إبراهيم حنيفاً واتَّخذ الله إبراهيمَ خليلاً} (4 النساء آية 125) أي لا أحد أحسن ديناً ممَّن أسلم قلبه لله مخلصاً له الدِّين وحده، فلا يتَّجه بدعاء أو رجاء إلا إليه. وقد عبَّر القرآن عن توجُّه القلب بإسلام الوجه، لأنَّ الوجه مرآة القلب، على صفحته تنعكس طهارة الروح، ونقاوة الضمير، وصفاء السريرة. وهو مع هذا التوجُّه والإخلاص القلبي، عامل للحسنات، تارك للسيِّئات، متَّصف بفضائل الأخلاق، ومتَّبع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام في حنيفيته، بالبعد عن الشِّرك، وعبادة الله وحده. فالآية تربط الشرائع كلَّها بسلسلة محكمة الحلقات، فليس هناك تناقض أو تنافر أو حتَّى تفاضل بين واحدة وأخرى، بدءاً ممَّا جاء على لسان إبراهيم الخليل، وانتهاءً بما نزل على محمَّد عليهما أفضل الصلاة والتسليم، وهذا دليل على وحدة مصدرها وأصولها وجذورها. كما أنها تقرن الإيمان والإحسان باتِّباع ملَّة إبراهيم عليه السَّلام، لتربط الأنبياء ممَّن جاء بعد إبراهيم؛ بأب روحي واحد هو إبراهيم الخليل، وتزرع أواصر القربى بينهم، ليتعايش أتباعهم على الأرض في جوٍّ من الإخاء والمودَّة، ولهذا دُعي إبراهيم عليه السَّلام ـ أبو الأنبياء ـ فما أُنْزِلَ كتاب من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم، إلا وكان من ذرِّيته وشيعته، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأبوَّة فقال تعالى في حقِّه: {وتلك حُجَّتُنا آتيناها إبراهيمَ على قومهِ نرفعُ درجاتٍ من نشاءُ إنَّ ربَّك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاقَ ويعقوبَ كُلاًّ هَديْنَا ونوحاً هَديْنَا من قَبلُ ومن ذُرِّيَّتِهِ داود وسليمان وأيُّوبَ ويوسف وموسى وهارون وكذلك نَجزي المحسنين * وزكريَّا ويَحيى وعيسى وإلياسَ كلٌّ من الصَّالحين * وإسماعيل واليَسَعَ ويونُس ولوطاً وكُلاًّ فَضَّلنا على العالمين} (6 الأنعام آية 83ـ86). وقد رزق الله تعالى إبراهيم عليه السَّلام بولدين اصطفاهما بالنبوَّة وهما إسماعيل وإسحاق عليهما السَّلام.

أمَّا إسماعيل فهو جدُّ النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم وقد خاطب الله المؤمنين مشيراً إلى النَّسب الإبراهيمي بقوله: {..وما جعلَ عليكم في الدِّين من حرجٍ مِلَّةَ أبيكُم إبراهيمَ هو سَمَّاكم المسلمين من قبل..} (22 الحج آية 78).

وأمَّا إسحاق فرزق بولد اسمه يعقوب، ويلقَّب بإسرائيل، وإليه ينتسب سائر أسباط بني إسرائيل، الَّذين كان من نسلهم كثير من الأنبياء الَّذين خُتِموا بعيسى بن مريم عليه السَّلام الَّذي قال لأتباعه كما جاء في إنجيل يوحنَّا [857] : (أبوكم إبراهيم تهلَّل بأن يرى يومي فرأى وفرح). فمن هذه النصوص جميعاً يتبيَّن أن إبراهيم هو جدُّ اليهود والنصارى والمسلمين، وأن أتباع هذه الشرائع الثلاثة يلتقون في النسب عنده، فهم من أرومة واحدة، ويسعون إلى غاية واحدة، وهي العمل بوصايا الله الَّتي أنزلها عليهم، والَّتي تدعو إلى عبادة الله وحده؛ ليكونوا سعداء في هذه الدنيا وغداً في الدار الآخرة. وكلُّ ما يبدو بينها من اختلاف أو تنافر فليس من أصلها، إنما هو من إساءة الفهم لحقائقها، وكلُّ ما في الأمر أن كلَّ شريعة لاحقة جاءت متوافقة مع الشريعة السابقة ومعيدة لها شبابها وحيويتها، ومضيفة إليها ما يناسب أهل زمانها، مختومة بشريعة الإسلام الَّتي أتت لتتوافق مع كلِّ زمان ومكان، ومحقِّقة للتوازن بين جميع الشرائع في رحاب القرآن الكريم.

وقد سُمِّي إبراهيم خليلاً لأن محبَّة الله تعالى تخلَّلت في كيانه، ولأنه يتمتَّع بصفات عظيمة، ورد ذكرها في القرآن الكريم، ونوجز أهمَّها بما يلي:

أوَّلاً ـ كثرة القنوت، والإيمان المطلق بوحدانيَّة الله عزَّ وجل، فهو يملك قلباً صافياً معافى من محبَّة الأغيار، قال تعالى: {إنَّ إبراهيمَ كان أُمَّةً قانِتَاً لله حنيفاً ولم يَكُ من المشركين} (16 النحل آية 120) وقال أيضاً: {وإنَّ من شيعَتِه لإبراهيم * إذ جاءَ ربَّه بقلبٍ سليم} (37 الصافات آية 83 ـ84). وقد رأينا فيما مضى أنه لما غزت قلبه محبَّة ولده الَّتي كادت تسيطر على قلبه أدركته العناية الإلهية بالدَّواء، الَّذي عقَّم قلبه من حبِّ ما سوى الله، حيث أُمِرَ بذبح إسماعيل، وقد فعل ما كانت ثمرته الصَّفاء التامَّ والإخلاص المطلق لله عزَّ وجل.

ثانياً ـ كان شكوراً كثير الحمد والدعاء لله عزَّ وجل، قال تعالى: {شاكراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وهداهُ إلى صراطٍ مستقيم} (16النحل آية 121)، وقد أخبرنا الله عزَّ وجل بما كان يدعو به حيث كان يقول عليه السَّلام: {الحمدُ لله الَّذي وهَبَ لي على الكِبَرِ إسماعيل وإسحاق إنَّ ربِّي لَسَمِيعُ الدُّعاء * ربِّ اجعلني مُقيمَ الصَّلاة ومن ذُرِّيَّتي ربَّنا وتَقَبَّل دُعاءِ} (14 إبراهيم آية 39ـ40).

ثالثاً ـ كان صدِّيقاً ونبياً ظهر صدقه وتفانيه في كلِّ مراحل حياته ودعوته لله عزَّ وجل، قال تعالى: {واذْكر في الكتابِ إبراهيمَ إنَّه كان صدِّيقاً نَّبيّاً} (19 مريم آية 41).

رابعاً ـ يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والرِّفق واللين، ومثال ذلك دعوته لأبيه: {إذ قال لأبيه ياأبتِ لِمَ تَعبدُ ما لا يَسمعُ ولا يُبصرُ ولا يُغني عنك شيئاً * ياأبتِ إنِّي قد جاءَنِي من العلمِ ما لم يَأْتِكَ فاتَّبعني أَهدِكَ صِراطاً سَويّاً * ياأبتِ لا تعبدِ الشَّيطان إنَّ الشَّيطان كان للرَّحمن عَصِيّاً * ياأبتِ إنِّي أَخافُ أن يَمسَّك عذابٌ مِن الرَّحمنِ فتكون للشَّيطان ولِيّاً} (19 مريم 42ـ45) ويأتي جواب الأب بأشدَّ ما يكون من القسوة والصلابة: {قال أراغبٌ أنت عن آلهتي ياإبراهيم لَئِن لَمْ تَنتَهِ لأرجُمنَّك واهجرني مليّاً} (آية 46).

خامساً ـ كان رحيماً بأهله وقومه، فهو يخاطب أباه بعد أن جادله في كفره: {قال سلامٌ عليكَ سأستغفرُ لك ربِّي إنَّه كان بي حَفِيّاً} (19 مريم آية 47) ويجادل الملائكة في قوم لوط، لعلَّه يصرف عنهم العذاب، ويتضرَّع إلى الله تعالى أن يتفضَّل عليهم بالتوبة، {فلمَّا ذَهبَ عن إبراهيمَ الرَّوعُ وجاءتهُ البُشرَى يُجادلُنا في قومِ لوطٍ} (11 هود آية 74).

سادساً ـ كان رشيداً، قال تعالى: {ولقد آتينا إبراهيمَ رُشدَهُ من قَبْلُ وكنَّا به عالمين} (21 الأنبياء آية 51).

سابعاً ـ كان متوجِّهاً توجُّهاً كاملاً لله تعالى، ومسلِّماً له بكلِّ جوارحه، وفيّاً بعهده، قال تعالى: {وتَركْنا عليه في الآخِرِين * سلامٌ على إبراهيم * كذلك نَجزي المحسنين * إنَّه من عِبَادِنا المؤمنين} (37 الصافات آية 108ـ111)، وقال أيضاً: {إذ قال له ربُّه أَسْلم قال أسلمتُ لِربِّ العالمين} (2 البقرة آية 131)، وقال أيضاً: {وإبراهيمَ الَّذي وفَّى} (53 النجم آية 37).

ثامناً ـ كان ذا حُجَّة قويَّة ومنطق سليم، يعكسان إيمانه العقلاني بالله عزَّ وجل: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذي حَاجَّ إبراهيمَ في ربِّه أن آتاهُ الله المُلْكَ إذ قال إبراهيمُ ربِّي الَّذي يُحيي ويُميتُ قال أنا أُحيي وأُميت قال إبراهيمُ فإنَّ الله يأتي بالشَّمسِ من المشرِقِ فأْتِ بها من المغربِ فبُهتَ الَّذي كَفَر والله لا يهدي القوم الظَّالمين} (2 البقرة آية 258).

تاسـعاً ـ إنه من أولي العزم والبصيرة ومن صفوة الرسل الَّذين تحمّلوا المشاقَّ، وواجهوا الصِّعاب في سبيل الدعوة إلى دين الله، قال تعالى: {واذْكر عِبادَنا إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ أُولِي الأيدي والأبصار} (38 ص آية 45).

عاشراً ـ كان أوَّاهاً من كثرة الإنابة الصادقة إلى الله عزَّ وجل، حليماً، قال تعالى: {..إنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ حليمٌ} (9 التوبة آية 114)، وقال أيضاً: {إنَّ إبراهيم لحليمٌ أوَّاهٌ منيبٌ} (11 هود آية 75).

وقد حاز إبراهيم الخليل عليه السَّلام، هذه المكانة العالية والمنصب الرفيع، بتوفيق الله أوَّلاً وبما حمل من صفات كريمة فاضلة، وبما عمل من عمل التزم فيه المنهج الإلهي، بصدق وإخلاص منقطع النظير، وفي هذا تنبيه إلى أن من يعمل بمثل هذا الصدق، لابُدَّ أن يفوز بأعلى المنازل بدليل قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ فأتمَّهُنَّ قال إنِّي جاعِلُكَ للنَّاس إماماً..} (2 البقرة آية 124) ومن أراد أن يَتَّبِعَ ملة إبراهيم حنيفاً فلابُدَّ من أن يكون جوهر روحه مضيئاً مشرقاً علْويّاً، قليل التعلُّق باللذات الجسمانية، ثمَّ يضيف إلى هذا الجوهر المقدَّس أعمالاً صالحة تزيده صقلاً، وأفكاراً بنَّاءة تزيده استنارة بالمعارف القدسية، كي يتوغَّل في عالم القدس والطهارة، ثمَّ لا يزال يزداد من هذه الأحوال الشريفة، إلى أن يصير مؤمناً لا يرى إلا بالله، ولا يسمع إلا بالله، فهو مع الله في كلِّ حركاته وسكناته. أي أن هذه التصرفات تكون محكومة بشرع الله، وتغذي جوارحها طاقة نورانيَّة مستمدَّة من فضل الله، وبذا تظهر فضيلة التديُّن الحقِّ، وامتياز الإيمان عن الجهل والجاهلية.

وقد قدَّس الله ـ الحنيفيَّة ـ ملَّة إبراهيم عليه السَّلام ودعا إليها، لأنها اللبنة الأولى للشرائع السماوية وشجرتها الأم، ولأنها تعني الوصول إلى الله عبر العقل والحواس، ولأنها تجمع قلوب الخلائق على وحدانيَّة الله تعالى، وتزرع في ضمائرهم الصدق والإخلاص، وعلى هذه الحنيفية بُنيت رسالة الإسلام، لذلك قال تعالى: {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بإبراهيمَ لَلَّذين اتَّبعُوه وهذا النَّبيُّ والَّذين آمنوا والله وليُّ المؤمنين} (3 آل عمران آية 68)؛ صلَّى الله عليك يا إبراهيم ـ خليل الله ـ وجزاك عن البشرية كلَّ خير.

وبالإضافة إلى المآثر الكبرى الَّتي كانت لإبراهيم عليه السَّلام، فإن الله سبحانه اختاره وولده إسماعيل لبناء أوَّل بيت وضع لعبادة الله في هذه الأرض، ألا وهو الكعبة المشرَّفة، حيث قال الله تعالى: {إنَّ أوَّلَ بيتٍ وضِعَ للنَّاسِ لَلَّذي بِبَكَّةَ مباركاً
وهدىً للعالمين * فيه آيات بيِّناتٌ مقامُ إبراهيمَ ومن دَخَلهُ كان آمناً..}
(3 آل عمران آية 96ـ97).

ويشير كتاب الله إلى هذه المأثرة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام فيقول: {وإذ يَرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسـماعيلُ ربَّنا تَقبَّلْ منَّا إنَّكَ أنت السَّميعُ العليم * ربَّنا واجعلنا مُسلمَيْن لك ومن ذُرِّيَّتنا أُمَّةً مسلمةً لك..} (2 البقرة آية 127ـ128) ومن أجل الإعداد لذلك أمر الله إبراهيم بأن يضع زوجته هاجر وولده (منها) إسماعيل الرضيع، بوادٍ غير ذي زرع، عند المكان الَّذي ستشاد عليه الكعبة المقدَّسة، ليكونا نواة المجتمع المكِّي المقبل. ويرقُّ قلب إبراهيم الرحيم لزوجته وولده، وما أن توارى عن أنظارهما راجعاً إلى فلسطين، حتَّى أشرف على وادي مكَّة ودعا ربَّه قائلاً: {..ربِّ اجعل هذا البلدَ آمناً واجنُبني وبنيَّ أن نعبُدَ الأصنام} (14 إبراهيم آية 35) ويتابع متضرِّعاً إلى الله عزَّ وجل ويقول: {ربَّنا إنِّي أسكَنتُ من ذُرِّيَّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتِكَ المحرَّم ربَّنا ليُقيموا الصَّلاة فاجعل أفئدةً من النَّاسِ تهوي إليهم وارزقهم من الثَّمراتِ لعلَّهم يشكرون} (14 إبراهيم آية 37). وهكذا جُلِبَتِ الحياة إلى وادي مكَّة، وأنعم الله على هاجر الصابرة المحتسبة وعلى ولدها، بالماء حيث لا ماء ولا أثر للحياة فكان بئر زمزم، وحامت الطُّيور فوق الماء ممَّا لفت انتباه إحدى القوافل المارَّة من هناك، وكان ذلك أمراً عجباً، حيث لم يعهدوا وجود الماء في هذا المكان من قبل، وشاهدوا الرضيع وأمَّه، فأقاموا هناك وكانت نقطة البداية.

فلما عاد إبراهيم عليه السَّلام بعد مدة للاطمئنان عليهما، سُرَّ لما رأى من عناية الله ورعايته لأهله، وبدأ بتنفيذ الأمر الإلهي ببناء الكعبة بمساعدة ابنه وقد غدا يافعاً قويّاً.

وبعد أن أتمَّ البناء أمره الله سبحانه أن يدعو عباده للحجِّ إلى بيت الله العتيق، فقال تعالى: {وأذِّن في النَّاسِ بالحجِّ يأتوكَ رجالاً وعلى كُلِّ ضامرٍ يأتينَ من كُلِّ فجٍّ عميق} (22 الحج آية 27). وبذلك كان أوَّل من جاء بالحجِّ، وإكراماً له ولصدقه في تنفيذ أمر الله، وطاعة ولده واستسلامه لمشيئة الله، شُرِعَتِ الأضحية، فقد مثَّل الأب وابنه أعظم مشهد في التضحية، والامتثال المطلق لأمر الله سبحانه وتعالى، فاستحقَّ أن يكون خليل الله سبحانه وتعالى.