آيات قرآنية

الفصل الثالث:

عدوُّ الهداية (الشيطان الرَّجيم)

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ كُلوا مِمَّا في الأَرضِ حَلالاً طيِّباً ولا تتَّبعوا خُطواتِ الشَّيطانِ إنَّه لكم عَدوٌ مبين(168) إنَّمَا يَأمُرُكُم بالسُّوءِ والفَحشَاءِ وأن تَقُولُوا على الله ما لاتعلمون(169)}

ومضات:

ـ الشيطان عدوُّ الإنسان، دأبَ على أن يوسوس له، بما يفسد عليه دينه ودنياه، من المعاصي والمنكرات.

ـ لا يفتأ الشيطان يغوي الإنسان، ويشجِّعه على افتراء الكذب على الله، ليُحرِّم ما أحلَّه له، ويحلِّل ما حرَّمه عليه؛ وذلك لتقويض النظام الَّذي وضعه الله تعالى من أجل إعمار الأرض، والإخلال بالغاية الَّتي خُلق الإنسان من أجلها.

في رحاب الآيات:

الشيطان عدوٌّ للإنسان منذ نشأته الأولى، وقد آلى على نفسه أن يُضلَّ بني آدم ويصرفهم عن الحقِّ، ويوردهم موارد التَّهلُكة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. لذلك فهو دائم السَّعْي ليثنيهم عن كلِّ ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وللشيطان مسالكه ومساربه، وله مداخله ومخارجه، ليتغلغل في نفس الإنسان وينفث سمومه فيها؛ فإذا ما وقع في شراكه أحد من الناس، شرع بخطَّةٍ ماكرةٍ لإضلاله، فيجمِّلُ له القبيح، ويزيِّن الرَّذيلة في عينيه فيُلْبسها رداء الفضيلة؛ فينطلي مَكره هذا على ضعاف العقول، الَّذين عطَّلوا ملكة التفكير الَّتي زوَّدهم الله تعالى بها، وأهملوا تنميتها والاستفادة من طاقاتها الهائلة، فسُرعان ما يقعون تحت تأثيره، وينقادون لأوامره، دون أن يدركوا فداحة خطئهم. ولذلك فإن الله جلَّ وعلا ـ عطفاً على أمثال هؤلاء ورحمة بهم ـ حذَّر جميع عباده، مراراً وتكراراً، من خداع هذا العدوِّ الماكر؛ ليكونوا بمنأى عن شروره وآثامه، والوقوع في شَرَكِهِ وإضلاله. والناس إزاء هذا التحذير على صنفين: صنف تثمر النصيحة فيه، وتؤتي أُكُلها فيتَّعظ، ويحتاط من شرِّ الشيطان ووساوسه، وصنف يُصِمُّ أذنيه ويغلق عقله، فتراه سادراً في غيِّه يأمره الشيطان فيأتمر، وينهاه فينتهي، ولو أوقعه ذلك في الهلاك.. وقد تصل الجرأة به حدّاً يُحِلُّ فيه ما حرَّمه الله، ويحرِّم ما أحلَّه له من خيرات الأرض وأرزاقها، وفي هذا تضييع للثَّروة الطبيعيَّة وهدر للنعم الإلهية، وتعطيل وتجميد لها، ممَّا يعود على المجتمع بأسوأ النتائج الاقتصادية والاجتماعية... ولا تنحصر الإساءة بالمجتمع وحده، بل تتعدَّاه إلى الاعتداء على شريعة الله وتحريف رسالته الحنيفة وإفسادها؛ لأن هؤلاء ينسبون إلى الله ما لم يشرِّعه لهم، ويتقوَّلون عليه ما لم يتنزَّل من لَدُنْه في شأن التحليل والتحريم، ممَّا يوقع بعض الناس في أباطيل هذه الشرائع، المشوَّهة المفتراة، والَّتي يظنُّون أنها من عند الله، إلا أن علاَّم الغيوب سبحانه عرَّفنا غواية الشيطان من خلال الحديث القدسي: «إنِّي خلقت عبادي حُنَفَاءَ فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم (صرفتهم) عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم» (رواه مسلم).

فشرُّ عدوٍّ للإنسان هو الشيطان، فمتى استرسل مع هذا العدوِّ، أنكر نِعَم الله وبدَّدها، أو وضعها في غير مواضعها. فإن لم يرجع إلى الله ويَزِنِ الأمور بميزان الشرع والعقل والحكمة، تتحوَّل النعمة إلى نقمة، والمنحة إلى محنة، والنعيم إلى جحيم دائم في الدنيا والآخرة.

سورة الأنعام(6)

قال الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكلِّ نبيٍّ عدوّاً شَياطينَ الإنسِ والجنِّ يُوحي بعضُهُم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القولِ غُروراً ولو شاءَ ربُّكَ ما فعلُوهُ فَذَرهُم وما يَفترون(112)}

ومضات:

ـ لابُدَّ لكلِّ حديقة ـ ذات وَرْدٍ فَوَّاح ـ من أشواك وأعشاب غريبة تظهر وتتطاول بين رياحينها. ولابُدَّ لكلِّ صاحب رسالة سماويَّة من أن يواجه قوى مخرِّبة تربض حوله، لتنشر الفساد والإفساد، وهذا ما وظَّف له مفسدو الإنس والجنِّ أنفسهم؛ إذ يطمحون إلى إيجاد مظاهر مقنعة من الكلام المعسول، ولا يهدأ بالُهم حتَّى تتحقَّق أهدافهم بانتشار الجهل والتأخُّر في سائر أنحاء المعمورة.

ـ إن الإيمان لَيَزْدَاد تألُّقاً كلَّما حاول أحد إطفاء نوره، وهذه إرادة الله في تمييز الصالحين من المُدَّعين الدجَّالين، وفي إحقاق الحقِّ وقطع دابر المفسدين.

في رحاب الآيات:

إن الصراع بين الخير والشرِّ قائم منذ بدء الخليقة وحتَّى قيام الساعة، وهو صراع بين النفس المطمئنة الَّتي يقودها العقل الإيماني الرشيد، والنفس الدنيئة الأمَّارة بالسوء، وما عقل الإنسان إلا منارة تهديه سواء السبيل، وتعصمه من الزلل، ولكنَّ النفس الخبيثة كثيراً ما تسيطر على العقل، وتسيِّره وفق أهوائها فتَضِلُّ وتُضِلُّ صاحبها معها. ولهذا كانت الرسالات السماوية تتوالى تباعاً في كلِّ عصر وجيل؛ لتقوم بدورها في هداية البشرية إلى الحقِّ، وللعمل على تحريك العقول، وشحذ الهمم، وتطهير النفوس، وإنقاذ الناس من المضلِّلين الغاوين الَّذين يقفون في وجه دعوة الأنبياء والمصلحين، ويعملون على إثارة الفتن بين صفوف المؤمنين، وهم الأعداء الألِدَّاء من شياطين الإنس والجنِّ أجمعين. فقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ياأبا ذر تعوَّذْ بالله من شرِّ شياطين الجنِّ والإنس، قال: يانبي الله وهل للإنس شياطين قال: نعم». وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجنِّ، قيل: ولا أنت يارسول الله، قال: ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» (رواه مسلم) فهؤلاء الشياطين من الجنِّ والإنس الَّذين كانوا ومازالوا أعداءً لكلِّ نبي، ولكلِّ مصلح، هم الَّذين يحاولون خداع المؤمنين بالقول المزخرف ويدُسُّون السُّم في الدَّسم. وقد يكون شياطين الإنس أشدَّ وطأة وخطراً على المرء من شياطين الجن، كما يقول أحد الصالحين: [إني إذا تعوَّذت بالله ذهب عني شيطان الجنِّ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرُّني إلى المعاصي عياناً]، وإن الشيطان من الجنِّ، إذا أعياه المؤمن، ذهب إلى متمرِّد من الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه.

إذن فالمعركة مستمرَّة، والمتآمرون كُثُر، والمؤمن في مواجهة خصوم شرسين، ولكنَّ أرباب القلوب لا يُصغون إلى وساوس هذه العصابة، بل كلَّما اشتدت عليهم عداوة الأعداء، تمتَّنت جذور الإيمان في أعماقهم. وعلى الرُّغم من ضراوة هذه المعركة ومساوئها، فإن لها ميزة بالغة الأهمية، وهي أنها تفرز العناصر المؤمنة المسؤولة الواعية، الَّتي سلكت طريق الإيمان، بحسٍّ روحي وعقل متفتِّح، لتقف في مواجهة قوى الشرِّ، وتكون لها الرِّيادة في المجتمع للسير به نحو السعادة المثلى، وتصبح فئة ذات هيبة تُرْهِبُ الشياطين فضلاً عن الأعداء والأشرار الإنسيين، وهذا ما أكَّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : «والله إن الشيطان لَيَفِرُّ منك ياعمر» (رواه مسلم).

فلكلِّ فئة من المؤمنين معادون ومعاندون، كما كان للأنبياء والرسل من قبلهم؛ وذلك لأنَّهم سلكوا نهجهم. إلا أن الله عزَّ وجل قد أوصى نبيَّه، وكلَّ من يتَّبعه، بأن يستمروا في إشادة صرح الإيمان، واثقين مطمئنين بوعد الله لهم بالنصرة والتأييد والسعادة، والخزي والخذلان والشقاء للمكذِّبين المخادعين، فالمكر السَّيء لا يحيق إلا بأهله، والعاقبة للتَّقوى، قال تعالى: {ولقد سَبَقَتْ كَلِمتنا لِعبَادِنا المُرسَلِين* إنَّهم لَهُمُ المنْصُورون * وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبون} (37 الصافات آية 171ـ173) فالمؤمن في جهاد مستمر ومعركة قائمة، بين الشيطان وما والاه من القوى الشرِّيرة، وبين الإيمان وما يصاحبه من الصفات الخيِّرة إلى أن يلقى الله، فيظفر بالجنان ولذَّة النظر إلى الرحمن.

ويبيِّن عزَّ وجل أنه لو لم يشأ لهم أن يفعلوا هذا التغرير ما فعلوه، كما أنه سبحانه لم يجبرهم على الهداية، وإنما جعل الناس مخيَّرين بين طريقي الخير والشرِّ حين قال: {ونفسٍ وما سوَّاها * فأَلهمها فُجُورها وتقواها * قد أَفلَح من زكَّاها * وقد خَاب من دسَّاها} (91 الشمس آية 7ـ10).

سورة الناس(114)

قال الله تعالى: {قل أعوذ بربِّ النَّاس(1) مَلِكِ النَّاس(2) إله النَّاس(3) من شرِّ الوَسواسِ الخنَّاس(4) الَّذي يوسوسُ في صدورِ النَّاس(5) من الجِنَّةِ والنَّاس(6)}

ومضات:

ـ في هذه الآيات الكريمة ربطٌ وجدانيٌّ للمؤمن بخالق الأسرة الإنسانيَّة؛ ليستمدَّ منه القوَّة واليقظة الروحية والفكرية، فهو ربُّ العالمين الَّذي يكلؤه من أذى شياطين الإنس والجن.

في رحاب الآيات:

إن لفظة الملِك ونسبتها إلى الله عزَّ وجل في هذه الآية تختلف في مدلولها عن نسبتها إلى أحد من مخلوقاته، فمُلك الله عزَّ وجل ليس مجرَّد الإشراف على الخلائق، والقيام بتدبير أمورهم، وتولِّي حفظهم وحمايتهم كما هو شأن ملوك الدنيا، بل هو ملكٌ مطلق، قائم على القدرة التامَّة على التصرُّف المطلق في المخلوقات، إحياءً وإماتةً، وإيجاداً وأخذاً، وعطاءً ومنعاً. ولاشكَّ أن من كانت هذه صفاته، هو وحده القادر على حماية رسله وعباده إذا ما التجؤوا إليه، وهو وحده القادر على حفظهم من أضرار الشرور وشديد أخطارها، وخاصَّة من شرِّ الشيطان الَّذي يكمن قابعاً يترصَّد القلب البشري في لحظات غفلته عن حضرة الله لينفث سمومه، وليبذر فيه بذور الفتنة والشرِّ. فإن لم يتنبَّه المؤمن ويلوذ بمولاه، ويستدرك ملتجئاً إلى منقذه، منيباً إليه، فإنه يصبح مطيَّة له ينفِّذ به ومن خلاله رغباته الشرِّيرة، الَّتي تُغضب الله وتُثمر الخسارة الَّتي لا تعوَّض، لأنه إذا ما تمَكَّن خُبْث الشيطان ونفثه في القلب ضلَّ صاحبه وغوى، وربما لا تتهيَّأ له القدرة على مغالبة الشيطان والانفلات من أسره.

وإنَّما سمِّيَ الشيطان بالوسواس الخنَّاس، لأنه يختفي ويخنس إذا ذكر العبد ربَّه، فإذا غفل عن الله عاد فوسوس له، وفي الحديث الشريف: «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس» (رواه الحافظ الموصلي). ووسوسة شياطين الجنِّ لا ندري كيف تتمُّ، ولكننا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة، ومع كونها لا تُرى بِالعين، فإنها تقع في القلب وتنعكس على الجوارح والأعمال.

فالمعركة بين أبناء آدم عليه السلام وإبليس، قائمة إلى أجلها وهو يوم البعث والنشور، قديمة في إعلانها، قد أعلنها الشيطان حرباً، ومُنِحَ بها من الله إذناً، فأَذِنَ فيها سبحانه لحكمة أرادها، ولكنَّه لم يترك الإنسان فيها مجرَّداً من العدَّة، بل سبق الوعد منه والعهد بإغاثة المستجيرين به، وحماية اللاجئين إليه، فيمنحهم الأمن والاطمئنان ماداموا في كنفه وتحت رعايته. ومع أنَّنا لا ندري جميع الحِكَم الإلهية في إذنه تعالى بهذه الحرب، فإنَّ القرآن الكريم أكَّد على أنَّ كيد الشيطان يقتصر على أوليائه، أمَّا المؤمنون الصادقون فلا سلطان له عليهم، وكلَّ سلاح يستعمله ضدَّهم مفلول فاشل، قال تعالى: {فإذا قرأتَ القرآن فاستعِذْ بالله من الشَّيطان الرَّجيم * إنَّه ليس له سُلطانٌ على الَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون * إنَّما سُلطانُه على الَّذين يَتَوَلَّوْنَه والَّذين هم به مشركون} (16 النحل آية 98ـ100).

ولدخول الوسواس إلى قلب الإنسان طريقان، طريق خفيٌّ: وهو الَّذي تسلكه شياطين الجنِّ، وطريق ظاهر: وهو الَّذي يسلكه شياطين الإنس، فيأتون إلى الإنسان بصور وأشكال شتَّى؛ فيأتي أحدهم بصورة الصديق المحبِّ الناصح، فيبثُّ في جليسه الشرَّ والأذى من حيث لا يحتسب، أو يأخذ وظيفة النمَّام الواشي الَّذي يزيِّن الكلام، ويزخرف القول حتَّى يبدو وكأنَّه الحقُّ الصريح الَّذي لا مراء فيه، بغية زرع العداوة والبغضاء، أو يمتهن عمل بائع الشهوات، الَّذي يتسـلَّل إلى منافذ الغريزة في إغراءات لا تدفعها إلا يقظة القلب ورعاية الله وحفظه. ويلعب دوره الكبير في التأثير بحاشية السوء الَّتي توسوس لكلِّ ذي سلطان، حتَّى تتركه طاغية جبَّاراً، مفسداً في الأرض مهلكاً للحرث والنسل. ولعل الوسواس الَّذي يأتي للإنسان من طريق أبناء جنسه، أعظم شرّاً وأشدُّ خطراً من الوسواس الَّذي يأتيه من شيطان الجنِّ؛ لأن هذا الأخير يخنس ويَضْعُفُ أثره بمجرَّد ذكر الله والاستعاذة به، أمَّا شيطان الإنس فلا يردعه ذكر ولا تطرده استعاذة، ويبقى قائماً على صاحبه متسلِّطاً عليه حتَّى يهلكه. وفي كلتا الحالتين لا ملجأ للإنسان إلا الله، فإن أراد حماية نفسه من شرور الوساوس أيّاً كان مصدرها فعليه أن يحتمي بالركن المتين، بربِّه، إلهه وإله الناس أجمعين؛ عندها ينصره الله ويجعله من الغالبين.

ومجمل القول: إن الله تعالى عندما أذن لإبليس بالحرب أخذ بناصيته، ولم يسلِّطه إلا على الَّذين يغفلون عن ربِّهم مَلِكِهِمْ وإلههم، أمَّا من يذكرونه فهم في نجاة من الشرِّ ودواعيه الخفيَّة. فالخير إذن يستند إلى القوَّة الَّتي لا قوَّة سواها، والشرُّ يستند إلى وسواس خنَّاس يضعف عن المواجهة ويخنس عند اللقاء، وينهزم أمام الاستعاذة بالله. وهذا أكمل تصوُّر للحقيقة القائمة على الخير، كما أنه أفضل تصوُّر يحمي القلب من الهزيمة، ويملؤه بالقوَّة والثِّقة والطمأنينة، قال تعالى: {أَلا إنَّ أوليَاءَ الله لا خَوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون} (10 يونس آية 62).