آيات قرآنية

الفصل الخامس:

وحدة مصدر الشَّرائع السَّماويَّة

سورة المائدة(5)

قال الله تعالى: {إنَّا أنزلنا التَّوراة فيها هُدىً ونورٌ يَحكُمُ بها النَّبيُّون الَّذين أَسلَموا للَّذين هادوا والرَّبَّانيُّونَ والأحبارُ بما اسْتُحْفِظُوا من كتابِ الله وكانوا عليه شُهَداءَ فلا تَخْشَوا النَّاس واخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يَحْكُمْ بما أَنْزَلَ الله فأولئك همُ الكافرون(44) وكَتَبنا عليهم فيها أنَّ النَّفسَ بالنَّفسِ والعينَ بالعينِ والأنفَ بالأنفِ والأُذُنَ بالأُذُنِ والسِّنَّ بالسِّنِّ والجروحَ قصاصٌ فمن تَصدَّقَ به فهو كفَّارةٌ له ومن لم يحْكُم بما أنزَلَ الله فأولئك هم الظَّالمون(45) وَقَفَّينا على آثارِهِم بعيسى ابن مريم مُصَدِّقاً لِمَا بين يديه من التَّوراة وآتيناه الإنجيل فيه هُدىً ونورٌ ومصدِّقاً لما بين يديه من التَّوراةِ وهدىً ومَوعِظَةً للمتَّقين(46) وَلْيَحْكُم أهلُ الإنجيل بما أَنزَل الله فيه ومن لم يحكم بما أَنزلَ الله فأولئك همُ الفاسقون(47) وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ مُصَدِّقاً لما بين يَدَيه من الكتاب ومُهَيْمِناً عليه فاحكم بينهم بما أنزلَ الله ولا تتَّبِعْ أهواءَهُمْ عمَّا جاءكَ من الحقِّ لكلٍّ جعلنا منكم شِرْعةً ومِنْهَاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمَّةً واحدةً ولكنْ لِيبلُوَكُم في ما آتاكُم فاستَبِقُوا الخيراتِ إلى الله مرجِعُكُم جميعاً فينبِّئُكُم بما كنتم فيه تختلفون(48)}

ومضات:

ـ إن جميع الأنبياء دعَوْا إلى دين واحد، لا تختلف أصوله، ولا تتعارض أغراضه، وذلك لأن وحدة المصدر تقتضي وحدة المنهج والهدف.

ـ علاقة القرآن بالشرائع السماوية في صورتها الأولى، علاقة تصديق وتأييد كلِّي، وعلاقته بها في وضعها الحالي علاقة تصديق لما بقي من أجزائها صحيحاً أصليّاً، وتصحيح لما طرأ عليها من البدع والتحريف والإضافات الدخيلة، وتجديد وبعث لشبابها وفاعليتها.

في رحاب الآيات:

لقد تتابعت رسل الله إلى البشرية تترى، وأُنزلت عليهم الرسالات السماوية واحدة تلو الأخرى لإقرار الشرائع الإلهية في الأرض، والَّتي من شأنها أن تربط قلوب الخلق بالخالق، وتنشر بينهم العدل والإخاء والسَّلام، وبذلك تستقيم لهم الحياة لأنهم تلقوا عقيدتهم وشريعتهم من إله واحد، عليم بخصائص النفس البشرية وميولها ونزعاتها، قاصد إسعاد هذا المخلوق في ظلال عبادته وطاعته، وله سبحانه، الرقابة على السرائر والضمائر كما له السلطان على الحركة والسلوك، فيجزي الناس وفق شريعته في الدنيا، ويجازيهم من منطلق عدله وفضله في الدار الآخرة.

وإن الدِّين الَّذي جاء به رسل الله، لا ينحصر في دائرة فهم العامَّة من الناس، الَّذين يقصرونه على الشعائر والعبادات والتجلِّيات؛ بل إنه يتجاوزها ويتعدَّاها، لأنه منهج كامل للحياة، يتسع ليشمل علاقة الفرد بخالقه، وعلاقته بالناس وبالكون من حوله. فالإنسان جزء من هذا الكون، وهو أبداً في حال تأثُّر به وتفاعل معه، وقد جاء الدِّين ليحفز كوامن القدرة والإبداع فيه، ليصبح قادراً على استنباط قوانين الكون ونواميسه، ثمَّ يسخِّرها لمنفعته.

والإنسان الفرد جزء من المجتمع، والناس بمجموعهم يسهمون في بنائه وتطويره، ودور الدِّين تجاههم تحديد الواجبات والحقوق المتبادلة فيما بينهم، وتنظيم علاقاتهم والمحافظة على روابطهم الاجتماعية والرُّقي بها، لئلا تنحدر إلى المستوى البهيمي فتعتريها الفوضى والتفسُّخ. وهكذا نجد أن الدِّين منظِّم للحياة البشرية بشقَّيها، قلباً وقالباً، ظاهراً وباطناً، اعتقاداً ومنهجاً وسلوكاً.

وقد بيَّنت الآيات الكريمة في النص القرآني السابق وحدة مصدر الشرائع السماوية، وأبرزت الصلة الوطيدة بينها، وأكَّدت على وشائج القربى الَّتي ربطت بين شرائعها جميعاً، ففي التوراة الَّتي أنزلت على موسى عليه السَّلام هدىً للقلوب، ونور للبصائر، التزم بها من جاء بعده من أنبياء بني إسرائيل، لأنهم أسلموا أنفسهم بكليَّتهم إلى الله عزَّ وجل، وكذلك كُلِّف علماء بني إسرائيل وعُبَّادُهم بتطبيقها، بصفتهم الأمناء على كتاب الله، الَّذين يشكِّلون الرقابة اليقظة، الَّتي لا تسمح لأيِّ يد أن تمتدَّ إليه، بالتحريف أو التبديل، أو الحذف أو الإضافة.

وبما أن تطبيق تعاليم الشريعة الإلهية لن يكون على درجة واحدة، لأن النفوس تتفاوت في درجة سموِّها وتقبُّلها لأحكامها، خاصَّة إذا تعارضت مع ميولها ونزعاتها، فتراها تعارض كلام الله أو تُؤوِّله أو تحرِّفه ليتماشى مع رغباتها، لذا يُحذِّر الله جميع الأنبياء والأوصياء على رسالاته من التهاون في مثل هذه المواقف، أو الميل مع أهل الهوى، فالحقُّ أولى أن يُتَّبع، وما كان الله ليشرع شريعة تتعارض مع سعادة الناس أو تضرُّ بمصالحهم، بل لتحيي قلوبهم وتوفِّر لهم الأمن والاطمئنان، والسعادة والسَّلام، ولكنَّ المعاندين تعمى أبصارهم عن نور الله، ويُغَلِّبون مصالحهم على مصالح غيرهم من الخلائق؛ أنانية وتسلُّطاً وجشعاً.

فالمجاهدة مستمرَّة على مرِّ الزمان، ولابدَّ للدعاة إلى الله من أن يصمدوا في وجه الأدعياء، ومن يضعف منهم أمام بعض الإغراءات (كالجاه، أو الرِّياسة، أو أي مطمع)، فلا مكان له ضمن دائرة رحمة الله، بل هو مطرود منبوذ منها، لأنه اشترى بآيات الله، ثمناً قليلاً من متاع الدنيا الزائل.

وتقرِّر الأحكام الإلهية مبدأً إنسانياً عظيماً، يُعَدُّ الميثاق الحقيقي لإعلان حقوق الإنسان، والحفاظ على حياته وسلامته من أي عدوان؛ وهو أنه لا يحقُّ لإنسان أن يقتل إنساناً أو أن يؤذيه أو يمسَّه بأدنى سوء. وقد رتَّب الله تعالى عقوبات صارمة لحماية النفس الإنسانية، فالقاتل يُقتل، والاعتداء يُرَدُّ بمثله، والقصاص هو العقاب الرادع الَّذي يحمل كلَّ من ينوي قتل غيره، على أن يراجع نفسه مرَّات ومرَّات قبل أن يُقدم على ما عزم عليه، لأن العقاب له بالمرصاد، فالقصاص هو الحُكم الَّذي تقضي به الفطرة السليمة، وتستريح إليه النفوس الكريمة، والَّذي يذهب بحزازات النفوس وغيظها، وجراحات القلوب وآلامها، ويسكِّن فورات الثأر الجامحة. فقد جاء في التوراة، الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج (الفقرة 24ـ26): (وإن حصلت أذيَّة تعطى نفساً بنفس وعيناً بعين وسنَّاً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل وكيَّاً بكي وجرحاً بجرح ورضَّاً برضّ). وجاء في الفصل الرابع والعشرين من سفر اللاويين (الفقرة18ـ20): (وإذا أمات أحد إنساناً فإنه يقتل، ومن أمات بهيمة يعوِّض عنها نفساً بنفس، وإذا أحدث إنسان في قريبه عيباً فكما فعل كذلك يفعل به كسر بكسر وعين بعين وسنٌّ بسن كما أحدث عيباً في الإنسان كذلك يحدث فيه). هذه الأحكام الَّتي نزلت في التوراة، بقيت كما هي في شريعة الإسلام، وأضيف إليها حكمٌ آخر هو قوله تعالى: {فمن تَصدَّق به فهو كفَّارةٌ له}. فبعد أن شرع الله تعالى القصاص دفعاً للأذى وإشباعاً لدوافع الفطرة، وضمانةً لما يريحها، راح يستثير في النفوس السماحة، والعفو والوجدان، علَّه يحرِّك تلك الَّتي لا يغنيها التعويض المالي، ولا يسلِّيها القصاص عمَّا فقدت، فتبقى فيها حرقة ولوعة، لا تطفئها ولا تهدِّئها إلا رحمة الله، الَّذي وعدها بالتعويض من قِبَلِه، وهو تعويض لا يُستهان به عند ذوي النفوس المطهَّرة والقلوب المنقَّاة. فالعفو عن الجاني ثوابه عند الله كفَّارة للمجني عليه، يُكفِّر الله بها ذنوبه، ويعفو عنه كما عفا عن أخيه، فقد روى أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً».

وتواصل كوكبة الإيمان تقدُّمها تحدوها محبَّة الله، وتكلؤها عنايته ورعايته لنشر الهداية في الأرض، ولتحقيق العدالة بين الناس، فيرسل جلَّ شأنه عيسى عليه السَّلام ومعه الإنجيل الَّذي جاء مصدِّقاً للتوراة، ولم يتضمَّن الإنجيل في ذاته تشريعاً مستقلاً عن التوراة، عدا بعض التعديلات الطفيفة، فهو بين مصدِّقٍ لها، ومضيف عليها، ومصحِّح لما تحرَّف منها. ويلاحظ أن تكرار آية {ومُصدِّقاً لما بين يديه} تأكيد على أن المسيح يصدِّق موسى عليهما السَّلام، كما أن الإنجيل يصدِّق التوراة. إلا أن التوراة جاءت لأهلها، والإنجيل جاء لأهله، ولن يكون النصارى واليهود على هدى من ربِّهم، حتَّى يقيموا أحكام شريعتهم كما أُنزلت إليهم، لأنها شُرعت لهم من قِبَل خالقهم، والكلُّ أمامه مسؤول عنها. وتتكامل سلسلة الرسالات السماوية بالحلقة الأخيرة منها، فينزل القرآن على النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم ، الَّذي جاء ليدعو إلى الإسلام، في صورته التامَّة الكاملة، ليكون للبشرية دين إلهي واحد متكامل، وليس مجموعة أديان، وهذا ما أكَّده الله بقوله: {شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذي أَوْحَينَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْـرَاهيمَ وَمـوسَـى وَعِيسَـى أَنْ أَقِيمُـوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُـوا فِيهِ...} (42 الشورى آية 13). وهكذا تظهر لنا حقيقة التلاحم والتواصل القائمَين بين رسالة الإسلام، وما سبقها من الرسالات السماوية، بما يشير إلى أنها واحدة يتمِّم بعضها بعضاً بتناسق وانسجام، فلا تعارض ولا تناقض من حيث الجوهر والأصل. فالرسالات السماوية شجرة مثمرة معطاء، تفيَّأ في ظلالها وأكل من ثمارها، كلُّ من استسلم لأوامر الله تعالى؛ وبهذا يكون جميع الأتباع المخلصين للشرائع السماوية في الحقيقة مسلمين، لأن كلمة الإسلام أصلاً كلمة عامَّة شاملة، واحدة من حيث المعنى، إلا أنها ذات مدلولات عدَّة؛ فهي لا تنحصر في تسمية الشريعة الإسلامية وحدها، بل تتَّسع لتشمل كلَّ من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وسلَّم إرادته وجوارحه لهذا الإيمان واستسلم لأوامر الله وتعاليمه. ولهذا فإن كلمة المسلمين تُطلَق اليوم على أتباع الشريعة الإسلامية بوصفهم آمنوا باليهودية السليمة، وبالمسيحية القويمة، وبالإسلام الحنيف، وبجميع الرسل والكتب السماوية المتعلِّقة بهذه الرسالات.

وفي مواضع كثيرة من القرآن الكريم نجد، بأن الله تعالى وصف إيمان الأنبياء عليهم السَّلام وإيمان أقوامهم به بأنه الإسلام، كما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام: {وإذ يرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تَقبَّل منَّا إنَّك أنت السَّميع العليم * ربَّنا واجعلنا مُسْلِمَينِ لك ومن ذرِّيَّتنا أمَّةً مسلمةً لك وأرنا مَناسِكَنا وتُبْ علينا إنَّك أنت التَّوَّابُ الرَّحيم} (2 البقرة آية 127ـ128)، وفي موضع آخر: {ووصَّى بها إبراهيمُ بنِيهِ ويعقوبُ يابَنِيَّ إنَّ الله اصطفى لكم الدِّينَ فلا تَموتُنَّ إلاَّ وأنتُم مُسلمون * أم كنتم شهداءَ إذ حَضَرَ يعقوبَ الموتُ إذ قال لبَنِيهِ ما تعبدون من بعدي قالوا نعبدُ إلهكَ وإله آبائِكَ إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ إلهاً واحداً ونحن له مسلمون} (2 البقرة آية 132ـ133)، وكما جاء على لسان يوسف عليه السَّلام: {ربِّ قد آتيتني من المُلْكِ وعلَّمتني من تأويلِ الأحاديثِ فاطرَ السَّمواتِ والأرضِ أنت وليِّي في الدُّنيا والآخرة تَوَفَّني مُسلماً وألحقني بالصَّالحينَ} (12 يوسف آية 101)، وكما جاء على لسان موسى عليه السَّلام: {وقال موسى ياقومِ إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكَّلوا إن كنتم مسلمين} (10 يونس آية 84)، وجاء على لسان يونس عليه السَّلام: {فإن تولَّيتُم فما سألتُكُم من أجرٍ إن أجري إلاَّ على الله وأُمِرتُ أن أكونَ من المسلمين} (10 يونس آية 72)، وفي سورة أخرى يقول تعالى عن حواريِّي المسيح عليه السَّلام: {وإذ أوحيتُ إلى الحَواريينَ أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنَّا واشهدْ بأنَّنا مسلمون} (5 المائدة آية 111)، ومن ثمَّ فقد أطلقها الله في كتابه، وجعلها نعتاً لكلِّ إنسان صالح ومصلح وشاكر لأنعم الله عليه: {ووصَّينا الإنسانَ بوالديهِ إحساناً حَمَلتهُ أمُّه كُرْهاً ووضعَتهُ كُرْهاً وحَمْلُهُ وفِصَالهُ ثلاثونَ شهراً حتَّى إذا بَلغَ أَشُدَّه وبَلغَ أربعينَ سنةً قال ربِّ أوزعني أن أشكرَ نِعمتَكَ الَّتي أَنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاهُ وأَصْلِحْ لي في ذرِّيَّتي إنِّي تُبْتُ إليك وإنِّي من المسلمين} (46 الأحقاف آية 15).

وقد أعلن صلى الله عليه وسلم بأنه لم يكن بِدْعاً من الرسل، بل إنه فرد من أفراد عائلتهم، وأخ من إخوتهم، وعبَّر عن هذه الرابطة الَّتي تربط بينهم بقوله: «الأنبياء إخوة أبناء عَلاَّت شرائعهم شتَّى ودينهم واحد» (رواه الشيخان وأبو داود) (أبناء علات: أولاد الرجل الواحد من زوجات شتى). كما أوضح دوره المكمِّل والمتمِّم لما جاء في رسالات أولئك الرسل، فضرب لذلك مثلاً جليّاً وبيِّناً فقال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هَلاَّ وُضعت هذه اللَّبِنَة؟! قال: فأنا اللَّبِنَة، وأنا خاتم النبيين» (أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ).

وقد جمع الإسلام بين ماديَّة اليهودية وروحانيَّة المسيحية، فكان واقعياً منطقياً، زاوج بين المادَّة والروح وأعطى كُلاً منهما حقَّه، ففي القرآن شريعة الإسلام وقانونه، الَّذي أنزله الله بالحقِّ، يتمثَّل ذلك في كلِّ ما يعرضه من شؤون العقيدة والعبادة، وفي كلِّ ما يقُصُّه من الأخبار، وما يحمله من التوجيهات، إضافة إلى أنه مصدِّق للكتب الَّتي جاءت من قبله، وفي هذا دحض لافتراءات المغرضين الَّذين كذَّبوا به، أو حاولوا أن ينسبوه إلى غير مصدره الأصلي.

وهكذا فإن فيض السماء واحد في كلِّ زمان ومكان، وهو يترعرع وينمو حين يصادف قلوب المتَّقين الَّذين صُقلت نفوسهم، وهذِّبت نواياهم وشحذت هممهم للتسابق نحو الخير، فأثمرت المعرفة في قلوبهم، وتفجَّرت ينابيع الحكمة من حنايا عقولهم، فتقبَّلوا ما جاء به الأنبياء، وإن خالف أهواءهم، لأنهم في الأصل جعلوا أهواءهم تبعاً لما يحبُّ خالقهم، فلا تمرُّد ولا عصيان، بل قبول وإذعان. ولو شاء الله لجعل الناس أمَّة واحدة متجانسة تدين بشريعة واحدة، وتخضع لمنهج واحد، ولكنه جعل لكلٍّ طريقاً ومنهاجاً، وأخضعهم لابتلاء واختبار فيما آتاهم من الدِّين، وترك لهم حرية الاختيار تكريماً لهم. ونظراً لما زوَّدهم به من عقل مفكر وإرادة حرة، فهم أحرار فيما يختارون، لكنَّه حثَّهم على التسابق في أعمال الخير والبناء الأخلاقي والعلمي، ودعاهم إلى الألفة والوحدة فيما بينهم، باجتماعهم على كلمة سواء هي كلمة التَّوحيد، قال تعالى: {قُل ياأهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إلى كلمَةٍ سَواءِ بيننا وبَينَكُم ألاَّ نَعبُدَ إلاَّ الله ولا نُشرِكَ به شَيئاً ولا يَتَّخِذَ بعضُنا بعضاً أربَاباً من دُونِ الله فإِن تَوَلَّوا فقولُوا اشهَدُوا بأنَّا مُسلِمُونَ} (3 آل عمران آية 64) وهي كلمة عادلة منصفة لا غلبة فيها لفريق على آخر، وتتضمَّن الإقرار بأن لا إله إلا الله، وبأنه المتفرِّد بالألوهية فليس له شريك، وتحثُّ الناس على ألا يتَّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وألا يُؤَلِّهوا أنبياءهم ورسلهم، فكلُّ الأنبياء عبيد الله، اصطفاهم للدعوة إلى عبادته لا لمشاركته في ألوهيَّته. فلا يستحقُّ العبادة أحد غيره سبحانه وتعالى، لأنها التسليم المطلق لأمره، والانقياد التامُّ لشرعه، فهي التعبير العملي عن حقيقة العقيدة، فكما أنه لا فائدة من شجرة لا تثمر، فكذلك لا فائدة من قولٍ لا يخترق حجب النفس ولا يؤثِّر فيها، فيجعلها تنقاد وتذعن لحضرة الله تعالى.

فمن يرفض هذه الدعوة الَّتي اتفقت عليها الكتب والرسل، وهي دعوة التَّوحيد، ويأبى ذلك عناداً وإصراراً، فما على المؤمنين إلا أن يقولوا له ولأمثاله: [اشهدوا بأننا موحِّدون، مسلمون ومسالمون، مقرُّون لله بالوحدانية، مستسلمون لأوامره] وأن يَدْعُوا الله تعالى من أعماق قلوبهم، لكي تجمعَهُم باقة الإيمان بِوَردها وزهرها، وتضمَّهم إلى قافلة الموحِّدين لله، السائرين على نهجه القويم، ويعيشون إخوة في الإيمان بالله الواحد الأحد، الَّذي قال في محكم آياته: {وأن ليس للإنسان إلاَّ ما سعى * وأنَّ سَعْيَهُ سوف يُرى * ثمَّ يُجْزاهُ الجزاءَ الأوفى * وأنَّ إلى ربِّك المُنتهى} (53 النجم آية 39ـ42).

وممَّا تقدَّم يمكننا أن نستنتج:

1 ـ أن الرسالات السماوية سلسلة واحدة يتمِّم بعضها بعضاً، وترتبط شرائعها بشكل حلقات متسلسلة. لذلك لا يغني السابق منها عن اللاحق، لأن اللاحق تضمَّن السابق وزاد عليه، بالإضافة إلى نفي الدخيل عليه والمحرَّف منه، ولهذا نجد القرآن الكريم، وهو آخر الكتب المنزلة، تضمَّن كلاً من التوراة والإنجيل، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ مُصدِّقاً لما بين يديهِ من الكتابِ ومُهيمناً عليه..} (5 المائدة آية 48). وليس للإنسان إلا اختيار اللاحق لأنه جمع محاسن السابق كلَّها، وبذا يكون متَّبع اللاحق متَّبعاً للسابق المهذَّب، فدين الله واحد، مهما اختلفت الأسماء، لأن مصدره واحد.

2 ـ إن محور الشرائع السماوية كلِّها هو إخلاص العبوديَّة لله، والتَّوحيد هو العروة الوثقى الَّتي تربط بينها جميعاً، وتوحِّد سائر المؤمنين ضدَّ الجهل والكفر والإلحاد.

3 ـ إن القرآن الكريم يوجِّه دعوةً للناس جميعاً إلى عقيدة واحدة، اتفق عليها كلُّ الرسل وجميع الأنبياء، وهي ألا يخضعوا إلا للإله الواحد الَّذي له وحده السلطة المطلقة في التشريع وبيان الحلال والحرام، وبالتالي إلى رفض الوساطة البشرية، الَّتي تلعب دور الربوبيَّة ابتغاء السيطرة والتسلُّط.

4 ـ اقتضت حكمته تعالى تعدُّد الشرائع والمناهج لهداية البشر، وذلك حسب تطوُّر العقل البشري، وما رافقه من تطوُّر المتطلبات والاحتياجات من جهة، ومن أجل ابتلاء الناس، وامتحان مدى صدقهم معه تعالى، والتزامهم بتطبيق شرائعه من جهة أخرى.

5 ـ إن التمسُّك بالشرائع السماوية والتقيُّد بأحكامها، هو الَّذي يعطي الفكر البشري الأهمِّية والمكانة الرفيعة، وليس لأحد أن يستبدل هذه النفائس بحطام من الدنيا.

6 ـ إن دور الأمناء على الرسالات السماوية، هو أن يتابعوا التبليغ بعد الأنبياء والرسل الكرام، بصدق وإخلاص، ودون محاباة في دين الله أو تحريف لتعاليمه.

7 ـ لم يطلب الإسلام من أي كتابي ـ يهودي أو مسيحي ـ أن ينسلخ عن دينه، بل دعاه إلى العودة لعقيدة دينه الأصليَّة، فهو إذاً قد دعاه إلى الالتزام بها، والتمسُّك بأحكامها بصدق وإخلاص.

سورة آل عمران(3)

قال الله تعالى: {الم (1) الله لا إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ(2) نَزَّلَ عليكَ الكتابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لما بين يديهِ وأَنزَلَ التَّوراةَ والإنجيلَ(3) مِن قَبلُ هُدىً للنَّاسِ وأَنزَلَ الفُرقانَ إنَّ الَّذين كَفَرُوا بآياتِ الله لهم عَذَابٌ شَديدٌ والله عَزيزٌ ذُو انتِقَامٍ(4)}

ومضات:

ـ إن قوام الشرائع السماوية، عقيدة التَّوحيد، والتسليم المطلق بأنَّ الله تعالى هو الإله الواحد الأحد، فلا ربَّ سواه، ولا يستحقُّ العبادة غيره، وهو الأزليُّ الباقي الَّذي لا يموت، والقائم وحده على شؤون خلقه، به تقوم كلُّ حياة وبه يكون كلُّ وجود.

ـ الإسلام يلتقي مع ما سبقه من الشرائع ويصادق عليها، ويتمسَّك بمبادئها القويمة وجوهرها الثمين، فكلُّها تحمل الهداية للناس وتفرِّق بين الحقِّ والباطل.

ـ إن مَن حُجب قلبه عن نور التَّوحيد، وفرَّق بين الرسالات السماوية، ودعوة أنبيائها؛ يستحقُّ الجزاء والعقاب على ضلاله وتعنُّته.

في رحاب الآيات:

كما هو شأن البذرة في الأرض، تنمو وتكبر بالرعاية والسقاية، إلى أن تصبح نبتة تورق وتزهر، ومن ثمَّ تثمر ثمرة يلذُّ طعمها للآكلين، فكذلك هو شأن بذرة الدِّين، بدأت في طورها الأوَّل بالفطرة الَّتي غرسها الله تعالى في قلب الإنسان عندما خلق آدم، ثمَّ راح يغذِّيها ويرويها شيئاً فشيئاً، بالتعاليم الواردة بالصحف والكتب، الَّتي أنزلها على أنبيائه ورسله، فراحت أمور الشريعة وما فيها من أوامر ونواهٍ، تتبلور وتتطوَّر من عصر إلى آخر، مع تطوُّر احتياجات الإنسان إليها، إلى أن أخذت شكلها النهائي في الإسلام، الَّذي هو خاتم الشرائع، والمنزَّل على خاتم الأنبياء.

وهذه الآيات، كغيرها من الآيات الأخرى، تقرِّر عقيدة التَّوحيد ووحدة الدِّين؛ الَّذي تضمَّنته الكتب السماوية والمنزلة من عند الله تعالى. وهي تتلخَّص بالتسليم بوحدانية الله، والتوجُّه الخالص له وحده بالعبودية، والاستعانة به، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ممَّا يقوِّم سلوك الإنسان، ويصحِّح مضمون عقيدته واتجاهه، فيدفع بذلك عن نفسه ما قد يعتريها من أوهام وتصوُّرات خاطئة تمسُّ عقيدته.

فالله جلَّ وعلا واحد لا شريك له، حيٌّ خالد، أزليٌّ قديم، ليس له بداية وليس له نهاية، وجوده مطلق لا يحدُّه زمان ولا مكان، منزَّهٌ عن كلِّ ما لا يليق به، وليس كمثله شيء. وهو القيُّوم المهيمن على ما خلق في الوجود من عوالم وخلائق وموجودات، قائم بتدبير أمورها، وتصريف شؤونها على الوجه الَّذي ارتضاه لها. وهذه الحقيقة الناصعة الواضحة الَّتي أعلنها الإسلام؛ ومن قبله الشرائع السماوية كافَّة؛ كانت القول الفصل في مسألة صحَّة وحتميَّة الاعتقاد بتفرُّد الله سبحانه بالألوهيَّة، ونبذ ذلك الركام من التصوُّرات الجاهلية عن تعدُّد الآلهة أو تمثيلها بالأصنام.

ثم تشير الآيات إلى أنه تعالى هو الَّذي نزَّل الكتاب على محمَّد صلى الله عليه وسلم ، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، عليهما السَّلام. فالجهة الَّتي تتنزَّل منها الكتب على الرسل واحدة، وقد جاء القرآن الكريم مصدِّقاً لما سبقه من الكتب المنزَّلة على الأنبياء، تلك الكتب الَّتي تستهدف غاية واحدة هي هداية الناس إلى الحقِّ والخير. وقد سارت رسالة الإسلام على نمط الرسالات السابقة من الهداية والإرشاد، وبما أن القرآن قد نزل بالحقِّ على رسول من البشر، فلا مبرِّر لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة، وهي من جنس الرسالات السماوية الَّتي نزلت على رسل من البشر أيضاً، واشتركت جميعها بالتبشير بمحمَّد صلى الله عليه وسلم ، وبيَّنت ضرورة تصديقه والإيمان برسالته.

ولم تقتصر مهمة القرآن على الهداية فحسب، بل فرَّق بين الهدى والضلال أيضاً، وبيَّن الروح الحقَّة الَّتي كانت تهيمن على ما سبقه من الكتب والَّتي تتَّفق وتنسجم مع آياته، وتوعَّد بالعذاب الشديد أولئك الَّذين وقعوا تحت تأثير الأهواء والتيارات الفكرية المشوَّهة، فراحوا يفسِّرون الكتب السـماوية، ويعلِّمونها للناس وفقاً لمصالحهم ورغباتهم، ولذلك سُمِّي بالفرقان.

والقرآن الكريم هو كتاب الله خالق الناس، الَّذي شرَّع لهم منهاج الحياة الفاضلة العملية والنظرية، لتلتقي معتقداتهم وشرائعهم وأخلاقهم على خطَّة سليمة ومنهج قويم. ولذلك تنطق الآية الأخيرة بالتهديد والوعيد لكلِّ من يُعرض عن آيات الله وشرائعه، ويَستَحِبُّ التفرقة على الوحدة، بأنَّ له عذاباً شديداً، فالله عزيز ذو انتقام.

سورة البقرة(2)

قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين آمَنُوا والَّذين هادُوا والنَّصارى والصَّابِئِينَ من آمنَ بالله واليومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحاً فلهُم أجرُهُم عند ربِّهِم ولا خَوفٌ عليهم ولا هُم يَحزنونَ(62)}

سورة البقرة(2)

وقال أيضاً: {وقالوا لن يَدخُلَ الجنَّة إلاَّ من كان هُوداً أو نَصَارى تلكَ أمانيُّهُم قُل هاتُوا بُرهانَكُم إن كنتُم صادِقينَ(111) بلى مَن أَسلَمَ وجهَهُ لله وهُوَ مُحسِنٌ فله أجرُهُ عند ربِّهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هُم يَحزنونَ(112)}

ومضات:

ـ القاسم المشترك بين الشرائع السماوية كلِّها، هو الدعوة إلى الإيمان الصادق بالله وباليوم الآخر وعمل الصالحات.

ـ يقرِّر الله تعالى في هذه الآيات الكريمة أن كلَّ من التزم بالإيمان الصادق بالله وباليوم الآخر، وقرن إيمانه بالعمل الصالح الخيِّر وأحسن القول والعمل، فإن له الأجر والمكافأة، أماناً وطمأنينة وسعادة من ربِّ العالمين، وأنه ليس هناك ما يجعله يخاف أو يحزن، فهو في حصن الله الحصين.

ـ على الرُّغم من انفتاحيَّة الإسلام، وإلزامه المسلمين بالإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين والكتب السماوية الَّتي سبقته دون استثناء، فقد تعصَّب بعض اليهود والنصارى بادِّعائهم حقَّ الدخول إلى الجنَّة دون غيرهم، والله تعالى يطالبهم في هذه الآيات بإقامة الدليل على صحَّة هذا الادِّعاء، مع علمه بعجزهم عن ذلك.

في رحاب الآيات:

يُجْمِلُ الله تعالى في هذه الآيات صورة الصراع التاريخي بين أتباع العقائد، حيث أرسل سبحانه عبر العصور المتعاقبة، رسلاً وأنبياء يجدِّدون للناس أمور دينهم، بما يتناسب مع متطلبات زمانهم. وكانت فئة من المتعصِّبين تبرز دائماً في مواجهة النبي الجديد أو الرسول، لترفض مبدأ التجديد، وتصرَّ على التحجُّر والتمسُّك بمعتقداتها، ناسبة الخير لأفكارها، ومُدَّعية انغلاق باب العطاء الإلهي في وجه من سواها.

وقد كان تقرير المفاضلة بين الرسالات السماوية من قبل المتدينين أنفسهم، والاعتراف ببعضها وإنكار بعضها الآخر، يخلق صراعاً مريراً بين طوائفهم، وينسف جسور الاتصال بين أتباع الشرائع السماوية، ويغلق باب الحوار فيما بينهم، ويزرع العداوة والبغضاء، وهذا ما شهدناه حقّاً على مدار التاريخ، حيث ذهب كثير من الضحايا، وسفكت دماء بريئة باسم الدِّين. وقد كان يتوجَّب على أولئك المتدينين، أن يبذلوا قصارى جهدهم في تمثيل دينهم ومعتقدهم أحسن تمثيل، وأن يعرضوه بشكل يرضي العقل والمنطق بعيداً عن التعصُّب والانفعال، ليوحِّد الناس ويجمعهم بدلاً من أن يتولَّد النزاع والتناحر بينهم.

ويريد الله تعالى من خلال هذه الآيات الكريمة، تهدئة مشاعر العصبيَّة بين المتدينين، الناشئة عن تطرُّف بعضهم في التعصُّب لآرائهم ومعتقداتهم، ليلتفت الجميع إلى إشادة البناء السليم؛ الَّذي يمكن أن يسع أتباع الشرائع السماوية كلِّها، والَّذي يرتكز على الأركان الأساسية الَّتي تقوم عليها هذه الشرائع. وأوَّل هذه الأركان هو الإيمان بالله الواحد، إيماناً حقيقيّاً، تستسلم له ذرَّات وجودنا وخلايا تفكيرنا، فهو تعالى مقصودنا ورضاه مطلوبنا؛ فما من شيء يوحِّد بين قلوب الخلائق كالإيمان الربَّاني، الَّذي يسمو بها فوق الأهواء والتناحر والبغضاء.

والركن الثاني الَّذي يمكن أن يحقِّق هذا الترابط الإيماني بين سائر المتدينين هو إيمانهم بالدار الآخرة، وأنهم مبعوثون للحساب والمقاضاة، فهم بذلك سيحسنون الاستعداد لذلك اليوم، الَّذي يوجب التزوُّد بالعمل الصالح، والإحسان إلى مخلوقات الله على اختلاف أجناسهم وألوانهم ومللهم؛ فالخير غير محصور في فئة دون أخرى، ولا هو وَقْفٌ على جماعة دون جماعة، بل هو حقٌّ مشاع لكلِّ من دبَّ على الأرض، ويتَّسع ليشمل جميع الخلق، فللجميع حقُّ الحياة المقدَّس. وإذا أحببنا الله أحببنا مخلوقاته، وتركناهم ينعمون بحقِّهم في الحياة الكريمة، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الخلق كلُّهم عيال الله وأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله» (أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً). وبذلك يتكامل بناء الهرم الإيماني حتَّى إذا وصل إلى ذروته تُوِّج بالإيمان الكامل والتسليم المطلق بوحدانية الله عزَّ وجل، وقُدِّس بكلمة لا إله إلا الله، وعندها يتكامل الصرح السامق ليلامس السماء، ويمضي صُعُداً إلى الملكوت السماوي، حيث يجد العبد في ظلِّ الله الحُبَّ والرضا، والسعادة السرمدية الَّتي لا تنتهي ولا تزول.

والركن الثالث هو العمل الصالح الَّذي يعني القيام بكلِّ ما فيه خير للأمم، سواء في بناء الأخلاق، ونشر الرحمة والمساعدة والعطاء، ونشر العلم والفضيلة، والثقافة والتعليم، أم في البناء والإعمار، وإقامة السدود، والمحافظة على نظافة الأرض وبيئتها، والاستفادة من أجواء الفضاء ومن كلِّ ما سخَّره الله تعالى من أجل مصلحة الإنسان. ولا يمكن لهذه الأعمال أن تكون صالحة ومقبولة ومأجورة من قبل الله تعالى ما لم يكن التوجُّه بها خالصاً لمرضاته وإسعاد مخلوقاته، انطلاقاً من الإيمان الراسخ بالله عزَّ وجل.

وبالنتيجة فإن على الإنسان أن يقدِّم عملاً مثمراً وخيِّراً وبنَّاءً يبتغي به وجه الله، ثمَّ يترك القرار في الحكم له أو عليه إلى الله عزَّ وجل، فهو الحكم العدل، الَّذي يقرِّر من له الحقُّ في أن يدخل فسيح جنانه ويستقرَّ في ملكوته الأعلى. عندها يسود الأمن والاطمئنان في المجتمع الإنساني كلِّه، فلا خوف ولا حزن ولا قلق، بل مجتمع متآزر متآخٍ، سعيد في الحياة الدنيا والآخرة، حيث ينال كلٌّ ثواب عمله ولا يُنتقص منه شيءٌ.

إن المانع الأساسي من التقاء أتباع الشرائع الَّتي أنزلها الله تعالى هو التعصُّب بالدرجة الأولى، ثمَّ التشويه الَّذي صنعه المغرضون في تلك الشرائع. لقد افترى الأفَّاكون أعداداً هائلة من الأحاديث المكذوبة، المفتراة على لسان رسول الله محمَّد صلى الله عليه وسلم وهو منها براء، فانبرى العلماء العاملون لتلك الأحاديث الَّتي قصد مُشِيعُوها تشويه الإسلام، ففنَّدوها وعَرَّوا أصحابها، واستبعدوا كلَّ دخيل مكذوب، فبقيت تعاليم الإسلام على صفائها ونقائها بحفظ مَصْدرَيْها الأساسيين الكتاب والسنَّة، ولو أن الأمر ذاته حدث في الرسالات الأخرى والشرائع السابقة وزال التعصُّب، لالتقى أتباعها جميعاً مع شرع الله الخالد واجتمعوا على كلمة سواء.

وفي ختام هذا الفصل لابد أن نلفت الانتباه إلى الآيات الكريمة الَّتي أقسم فيها الله تعالى برموز ثلاثة مرتبطة بالشرائع الإبراهيمية الثلاث، حيث يقول عزَّ وجل: {وَالتِّينِ وَالزَّيتُون * وَطُوْرِ سِينِين * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِين} (95 سورة التين آية 1ـ3). فبلاد التين والزيتون هي الأرض المباركة حيث مهد المسيح عليه السَّلام ومسيرة دعوته، وطور سينين حيث ناجى موسى عليه السَّلام ربَّه وتلقى الأمر الإلهي ببدء الجهاد السلمي ضد الكفر والتسلط، والبلد الأمين حيث أشرقت دعوة محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام في مكَّة المكرمة؛ لتحضن شرائع السماء بإعزاز وتكريم، وتجمع قلوب المؤمنين بالله في سائر أنحاء العالم على المحبَّة والخير والسَّلام.