رجال حول الرسول ( صلى الله عليه وسلم )

رجال حول الرسول ( صلّى الله عليه وسلّم )

    قيس بن سعد بن عبادة ( أدهى العرب  لولا الإسلام ) 

  كان الأنصار يعاملونه على حداثة سنه كزعيم..

وكانوا يقولون:" لو استطعنا أن نشتري لقيس لحية بأموالنا لفعلنا"..

ذلك أنه كان أجرد, ولم يكن ينقصه من صفات الزعامة في عرف قومه سوى اللحية التي كان الرجال يتوّجون بها وجوههم.

فمن هذا الفتى الذي ودّ  قومه لو يتنازلون عن أموالهم لقاء لحية تكسو وجهه, وتكمل الشكل الخارجي لعظمته الحقيقية, وزعامته المتفوقة..؟؟

انه قيس بن سعد بن عبادة.

من أجود بيوت العرب وأعرقها.. البيت الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام:

" إن الجود شيمة أهل هذا البيت"..

وانه الداهية الذي يتفجر حيلة, ومهارة, وذكاء, والذي قال عن نفسه وهو صادق:

" لولا الإسلام, لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"..!!

ذلك أنه حادّ الذكاء, واسع الحيلة, متوقّد الذهن.

 

  ولقد كان مكانه يوم صفين مع علي ضدّ معاوية.. وكان يجلس مع نفسه فيرسم الخدعة التي يمكن أن يؤدي بمعاوية وبمن معه في يوم أو ببعض يوم, بيد أنه يتفحص خدعته هذه التي تفتق عنها ذكاؤه فيجدها من المكر السَّيِّئُ الخطر, ثم يذكر قول الله سبحانه:

( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ)..

فيهبّ من فوره مستنكرا, ومستغفرا, ولسان حاله يقول:

" والله لئن قدّر لمعاوية أن يغلبنا, فلن يغلبنا بذكائه, بل بورعنا وتقوانا"..!!

إن هذا الأنصاري الخزرجي من بيت زعامة عظيم, ورث المكارم كابرا عن كابر.. فهو ابن سعد بن عبادة, زعيم الخزرج الذي سيكون لنا معه فيما بعد لقاء..

وحين أسلم سعد أخذ بيد ابنه قيس وقدّمه إلى الرسول قائلا:

" هذا خادمك يا رسول الله"..

ورأى لرسول في قيس كل سمات التفوّق وأمارات الصلاح..

فأدناه منه وقرّبه إليه وظل قيس صاحب هذه المكانة دائما..

يقول أنس صاحب رسول الله r:

" كان قيس بن سعد من النبي, بمكان صاحب الشرطة من الأمير"..

وحين كان قيس, قبل الإسلام يعامل الناس بذكائه كانوا لا يحتملون منه ومضة ذهن, ولم يكن في المدينة وما حولها إلا من يحسب لدهائه ألف حساب.. فلما أسلم, علّمه الإسلام أن يعامل الناس بإخلاصه, لا بدهائه, ولقد كان ابنا بارّا للإسلام, ومن ثمّ نحّى دهاءه جانبا, ولم يعد ينسج به مناوراته القاضية.. وصار كلما واجه موقعا صعبا, يأخذه الحنين إلى دهائه المقيد, فيقول عبارته المأثورة:

" لولا الإسلام, لمكرت مكرا لا تطيقه العرب"...!!

 

  ولم يكن بين خصاله ما يفوق ذكائه سوى جوده.. ولم يكن الجود خلقا طارئا على قيس, فهو من بيت عريق في الجود والسخاء, كان لأسرة قيس, على عادة أثرياء وكرام العرب يومئذ, مناد يقف فوق مرتفع لهم وينادي الضيفان إلى طعامهم نهارا... أو يوقد النار لتهدي الغريب الساري ليلا.. وكان الناس يومئذ يقولون:" من أحبّ الشحم, واللحم, فليأت أطم دليم بن حارثة"...

ودليم بن حارثة, هو الجد الثاني لقيس..

ففي هذا البيت العريق أرضع قيس الجود والسماح..

تحّدث يوما أبا بكر وعمر حول جود قيس وسخائه وقالا:

" لو تركنا هذا الفتى لسخائه, لأهلك مال أبيه"..

وعلم سعد بن عبادة بمقالتهما عن ابنه قيس, فصاح قائلا:

" من يعذرني من أبي قحافة, وابن الخطّاب.. يبخلان عليّ ابني"..!!

وأقرض أحد إخوانه المعسرين يوما قرضا كبيرا..

وفي الموعد المضروب للوفاء ذهب الرجل يردّ إلى قيس قرضه فأبى أن يقبله وقال:

" إنا لا نعود في شيء أعطيناه"..!!

 

  وللفطرة الإنسانية نهج لا يتخلف, وسنّة لا تتبدّل.. فحيث يوجد الجود توجد الشجاعة..

أجل إن الجود الحقيقي والشجاعة الحقيقية توأمان, لا يتخلف أحدهما عن الآخر أبدا.. وإذا وجدت  جودا ولم تجد شجاعة فاعلم أن هذا الذي تراه ليس جودا.. وإنما هو مظهر فارغ وكاذب من مظاهر الزهو الإدّعاء... وإذا وجدت شجاعة لا يصاحبها جود, فاعلم أنها ليست شجاعة, إنما هي نزوة من نزوات التهوّر والطيش...

   ولما كان قيس بن سعد يمسك أعنة الجود بيمينه فقد كان يمسك بذات اليمين أعنّة الشجاعة والإقدام..

 

  لكأنه المعنيّ بقول الشاعر:

إذا ما راية رفعت لمجد                 تلقاها عرابة باليمين

تألقت شجاعته في جميع المشاهد التي صاحب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حيّ..

وواصلت تألقها, في المشاهد التي خاضها بعد أن ذهب الرسول إلى الرفيق الأعلى..

والشجاعة التي تعتمد على الصدق بدل الدهاء.. وتتوسل بالوضوح والمواجهة, لا بالمناورة والمراوغة, تحمّل صاحبها من المصاعب والمشاق من يؤوده ويضنيه..

ومنذ ألقى قيس وراء ظهره, قدرته الخارقة على الدهاء والمناورة, وحمل هذا الطراز من الشجاعة المسفرة الواضحة, وهو قرير العين بما تسببه له من متاعب وما تجلبه من تبعات...

إن الشجاعة الحقة تنقذف من اقتناع صاحبها وحده..

هذا الاقتناع الذي لا تكوّنه شهوة أو نزوة, إنما يكوّنه الصدق مع النفس, والإخلاص للحق...

 

  وهكذا حين نشب الخلاف بين عليّ ومعاوية, نرى قيسا يخلو بنفسه, ويبحث عن الحق من خلال اقتناعه, حتى إذا ما رآه مع عليّ ينهض إلى جواره شامخا, قويا مستبسلا..

وفي معارك صفّين, والجمل, ونهروان, كان قيس أحد أبطالها المستبسلين..

كان يحمل لواء الأنصار وهو يصيح:

هذا اللواء الذي كنـــــا نخفّ به                   مع النبي وجبريــل لنا مدد

ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته                  ألا يكون له من غيرهم أحد

ولقد ولاه الإمام عليّ حكم مصر..

وكانت عين معاوية على مصر دائما... كان ينظر إليها كأثمن درّة في تاجه المنتظر...

 

  من أجل ذلك لم يكد يرى قيسا يتولى إمارتها حتى جنّ جنونه وخشي أن يحول قيس بينه وبين مصر إلى الأبد, حتى لو انتصر هو على الإمام عليّ انتصارا حاسما..

وهكذا راح بكل وسائله الماكرة, وحيله التي لا تحجم عن أمر, يدسّ عند علي ضدّ قيس, حتى استدعاه الإمام من مصر..

 

  وهنا وجد قيس فرصة سعيدة ليستكمل ذكاءه استعمالا مشروعا, فلقد أدرك بفطنته أن معاوية لعب ضدّه هذه اللعبة  بعد أن فشل في استمالته إلى جانبه, لكي يوغر صدره ضدّ الإمام علي, ولكي يضائل من ولائه له.. وإذن فخير رد على دهاء معاوية هو المزيد من الولاء لعليّ وللحق الذي يمثله عليّ, والذي هو في نفس الوقت مناط الاقتناع الرشيد والأكيد لقيس بن سعد بن عبادة..

وهكذا لم يحس لحظة أن عليّا عزله عن مصر.. فما الولاية, وما الإمارة, وما المناصب كلها عند قيس إلا أدوات يخدم بها عقيدته ودينه.. ولئن كانت إمارته على مصر وسيلة لخدمة الحق, فان موقفه بجوار عليّ فوق أرض المعركة وسيلة أخرى لا تقل أهميّة ولا روعة..

  

  وتبلغ شجاعة قيس ذروة صدقها ونهاها, بعد استشهاد عليّ وبيعة الحسن..

لقد اقتنع قيس بأن الحسن رضي الله عنه, هو الوارث الشرعي للإمامة فبايعه ووقف إلى جانبه غير ملق إلى الأخطار وبالا..

وحين يضطرّهم معاوية لامتشاق السيوف, ينهض قيس فيقود خمسة آلاف من الذين حلقوا رؤوسهم حدادا على الإمام علي..

ويؤثر الحسن أن يضمّد جراح المسلمين التي طال شحوبها, ويضع حدّا للقتال المفني المبيد فيفاوض معاوية ثم يبايعه..

 

  هنا يدير قيس خواطره على المسألة من جديد, فيرى أنه مهما يكن في موقف الحسن من الصواب, فان لجنود قيس في ذمّته حق الشورى في اختيار المصير, وهكذا يجمعهم ويخطب فيهم قائلا:

" إن شئتم جالدت بكم حتى يموت الأعجل منا, وان شئتم أخذت لكم أمانا:..

واختار جنوده الأمر الثاني, فأخذ لهم الإمام من معاوية الذي ملأ الحبور نفسه حين رأى مقاديره تريحه من أقوى خصومه شكيمة وأخطرهم عاقبة...

وفي المدينة المنوّرة, عام تسع وخمسين, مات الداهية الذي روّض الإسلام دهاءه..

مات الرجل الذي كان يقول:

لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ب\يقول:

" المكر والخديعة في النار, لكنت من أمكر هذه الأمة"..

أجل.. ومات تاركا وراءه عبير رجل أمين على كل ما للإسلام عنده من ذمّة, وعهد وميثاق...

عودة

الصفحة الرئيسية