البيئة  في الأيدلوجيات السياسية

البيئة  في الأيدلوجيات السياسية

 

يمكننا من منظور آخر اعتبار المذهب البيئي رؤية أفقية، شأنها في ذلك شأن القومية؛ أي أنها تتجاوز الأيدلوجيات لتصبح موضوعًا ساهمت كل أيدلوجية في تطويره من منظورها. فقد أظهر المحافظون والفاشيون والاشتراكيون و اللاسلطويون (الأناركيون) والحركة النسائية والليبراليون تعاطفا خاصا مع قضايا البيئة ككل، ولكنهم وضعوا أفكارا بيئية تدعم أهدافا سياسية شديدة الاختلاف.

المذهب البيئي اليميني

على الرغم من ارتباط سياسة الخضر الحديثة بالمبادئ والاهتمامات اليسارية بصفة عامة، كالاعتقاد في اللامركزية والعمل المباشر ومعارضة التدرج الهرمي ( الهيراركية) وفكرة التقدم الاقتصادي الخطي، فقد أشارت أنّا برامويل (1989) أن أول ظهور لعلم البيئة السياسي كان ذا توجه يميني بالأساس، وتجلى ذلك بشكل متطرف بظهور المذهب البيئي الفاشي خلال الفترة النازية في ألمانيا، وكان يمثله وولتر داريه الذي كان وزيرًا للزراعة أثناء حكم هتلر من 1933إلى 1942، كما تولى منصب زعيم الفلاحين النازيين، فقد أدت تجربة التحول السريع نحو التقدم الصناعي في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر إلى ظهور حركة قوية تنادي "بالعودة إلى الأرض"، والتي جذبت الطلاب والشباب في حركة الشباب الألماني؛ حيث لجأت أعداد كبيرة من الطلاب إلى التجول في الغابات والجبال للخروج من غربة الحياة في الحضر، وكانت أفكار داريه مزيجا من العنصرية الجرمانية وإعلاء مكانة الحياة الريفية، وقد اندمجت لتصبح فلسفة زراعية حول "الدم والتربة"BLUT UND BODEN تداخلت في مواضع كثيرة مع الاشتراكية القومية

وارتبطت النازية على سبيل المثال بشكل من أشكال المذهب الحيويLebensraum   التي تؤكد دور "قوى الحياة"، وعلى الرغم من ارتباط داريه بالنازية فإن أفكاره تتشابه تشابها كبيرا مع الحركة الخضراء الحديثة، فقد اقتنع في المقام الأول أن الرضا الحقيقي لا يتأتى إلا بالحياة بالقرب من الطبيعة وفوق الأرض؛ ولهذا تمنى إعادة إنشاء ألمانيا الريفية. وردد علماء البيئة المحدثون مثل إدوارد جولد سميث (1988) هذه الأفكار، كما أن داريه أصبح مؤيدا قويا للزراعة العضوية التي تستخدم المخصبات الطبيعية فقط مثل سماد الحيوان وترفض المخصبات الكيميائية تأسيساً على الدورة الطبيعية: "الحيوان-التربة-الغذاء-البشر".

وفي "اليمين المعتدل" soft right أظهر المحافظون تعاطفا مع الموضوعات البيئية. فعلى سبيل المثال وصفت مارجريت تاتشر (المرأة الحديدية) المحافظين في المملكة المتحدة في "خطابها الأخضر" الشهير عام 1988 بأنهم "حماة ورعاة الأرض".

ومثل هذه إدراكات البيئية دأبت على التركيز على موضوع المحافظة على البيئة، أي حماية ما يسمى بالموروث الطبيعي كالغابات والفصائل الحيوانية والنباتية بالتوازي مع حماية الموروث المعماري والاجتماعي، ومن ثم ترتبط المحافظة على الطبيعة بالدفاع عن القيم والمؤسسات التقليدية.

المذهب  الاشتراكي البيئي Ecosocialism

تتميز الحركة الخضراء بطابع اشتراكي غالب، وتجلى ذلك بوضوح بين الخضر  الألمان؛ حيث كان كثير من زعمائهم أعضاء سابقين  للجماعات اليسارية بما فيها المتطرفة، وكثيرا ما يعتمد المذهب الاشتراكي البيئي على التحليل الماركسي، ويرد استنزاف الطبيعة للرأسمالية، وفي الوقت ذاته دأب على استبعاد الأفكار شبه الدينية التي كانت ذات تأثير لدى تيارات عديدة من الحركة البيئية أيضًا على خلفية الفكر الماركسي وموقفه من الدين.

وقد أثار موقف ماركس  فيما يخص العالم الطبيعي جدلا حوله؛ فالبعض يرى إيمانه بالتنمية التقدمية للقوى المنتجة على أنه بيان كلاسيكي عن التقدم الصناعي والبعض الآخر يعتقد أن تناوله للعمل في أعماله الأولى بوصفه "إصباغا للإنسانية" على الطبيعة و"إصباغا للطبيعة" على الإنسان يمثل علامة بيئية لا محالة.

وجوهر المذهب الاشتراكي البيئي يتمثل في أن الرأسمالية هي عدو البيئة، أما الاشتراكية فهي صديقتها. ولكن هذه الصياغة - تماما مثل الحركة النسائية الاشتراكية - تجسد صراعا بين عنصرين، ولكن الصراع هذه المرة بين أولويات "حمراء" و"خضراء". فإذا كانت الكارثة البيئية ما هي إلا نتاج ثاني للرأسمالية فإن حل المشكلات لن يتأتى إلا بسقوط الرأسمالية أو ترويضها على الأقل، تماما مثلما تسعى الحركة النسائية الاشتراكية، وبالتالي على علماء البيئة أن يعملوا في إطار الحركة الاشتراكية، وأن يتناولوا الموضوع الحقيقي المتمثل في النظام الاقتصادي، ولا يركنوا إلى تشكيل أحزاب خضراء متفرقة أو إلى إقامة المنظمات البيئية الضيقة، بل يغيروا النظام برمته الذي كان استنزاف البيئة مجرد أثر من آثاره.

ومن ناحية أخرى أشاع معارضو الاشتراكية النظر إلى الاشتراكية على أنها اعتقاد سياسي آخر "مؤيد للإنتاج" لتأييدها استنزاف ثروات الكوكب لصالح البشرية بأسرها لا لصالح مجموعة محدودة من الرأسماليين، فلا فارق جوهري يحق لها أن تزعمه لنفسها في مواجهة الرأسمالية.

ونتج عن ذلك أنه كثيرا ما رفض علماء البيئة تهميش الأخضر أمام الأحمر، ومنها إعلان الخضر الألمان أنهم "لا يساريين ولا يمينيين"، ونادى العديد من علماء البيئة الاشتراكيين إلى أن الأزمة البيئية شديدة الإلحاح لدرجة أنه يجب أن تكون لها الأولوية عن الصراع الطبقي، مؤكدين أن الاشتراكية بيئية بالأساس، فإذا كانت الثروة ملكية جماعية فإنها تستخدم لصالح الجماعة، وهو ما يعني على المدى البعيد مصالح البشرية.

ولكن تجربة اشتراكية الدولة في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية نتج عنها بعض من أكثر المشكلات البيئية، فقد قامت الأولويات الاقتصادية في الشرق الشيوعي -كما في الغرب الرأسمالي -على تتبع خط النمو الكمي، وفي ستينيات القرن العشرين مثلا أعيد شق طريق النهرين الأساسين اللذين يغذيان بحر "أرال" في أسيا المركزية السوفيتية لزراعة القطن والأرز، ونتج عن ذلك أن انكمش حجم بحر "أرال" الذي كان رابع أكبر بحيرة في العالم إلى نصف حجمه الطبيعي، كما تراجعت شواطئه100 كيلومتر في بعض المناطق مخلفة صحراء مالحة وملوثة.

وكان انفجار تشيرنوبل النووي في أوكرانيا 1986 أكثر الكوارث البيئية المعلن عنها حيث أجبر دوي الانفجار النظام السوفيتي على مزيد من الصراحة بخصوص المشكلات البيئية بصفة عامة.

وفي عصر ما بعد الشيوعية انطلقت جماعات الاحتجاج البيئية من الاتحاد السوفيتي، ولكن من الملاحظ أن هذه الجماعات قلما اعتنقت المذهب  الاشتراكي البيئي، بل ارتبطت أكثر بالمناحي السياسية المعارضة للاشتراكية كتجربة ضاغطة وشمولية بخلاف الحركة الخضراء في الغرب.

المذهب  الأناركي البيئي

تبدو اللاسلطوية أكثر الأيديولوجيات حساسية تجاه البيئة، فقبل أن يصدر كارسون كتابه المهم "الربيع الصامت" كان بوكتشين قد نشر كتابه الرصين "بيئتنا المصطنعة" (1962)، ويدين الكثير في "الحركة الخضراء" بأفكارهم إلى الشيوعيين الفوضويين الذين ينتمون إلى بواكير القرن العشرين، خصوصا بيتر كروبوتكين. ورأى بوكتشين توازيا واضحا بين أفكار الفوضوية ومبادئ علم البيئة التي جاء التعبير عنها في فكرة "علم البيئة الاجتماعي"، وهو الاعتقاد أن التوازن البيئي هو أساس الاستقرار الاجتماعي.

ويؤمن الفوضويون بمجتمع بلا دولة يتولد فيه التناغم من الاحترام المتبادل والترابط الاجتماعي بين الأفراد؛ فيقوم رخاء مثل هذا المجتمع على التنوع والاختلاف. ويؤمن علماء البيئة كذلك أن التوازن والتناغم يتولدان بصورة تلقائية في الطبيعة فيظهر على شكل أنظمة بيئية لا تتطلب سلطة أو رقابة خارجية تمامًا، مثل المجتمعات اللاسلطوية التي تتخلى عن مؤسسة الدولة المركزية وتهمشها، ومن ثم يتوازى رفضهم  للحكومة في المجتمع البشري وتحذيرات علماء البيئة من "الحكم" البشري في العالم الطبيعي؛ لذا شبه بوكتشين المجتمع اللاسلطوي بالمنظومة البيئية، ورأى أن كليهما يميزه احترام مبادئ التنوع والتوازن والتناغم.

وأيد الفوضويون بناء مجتمع لا مركزي  ينظم كمجموعة من القرى والجماعات  وتكون الحياة فيه قريبة من الطبيعة؛ حيث تسعى كل جماعة لتحقيق درجة كبيرة من الاكتفاء الذاتي. ويتنوع اقتصاد هذه الجماعات فينتجون الغذاء إلى جانب نطاق واسع من السلع والخدمات الأخرى، وبالتالي ينضوي اقتصادهم على الزراعة والأعمال الحرفية والصناعات الصغيرة، ويحث الاكتفاء الذاتي كل مجتمع على الاعتماد على بيئته الطبيعية فيتأتى فهم العلاقات العضوية وعلم البيئة بالتبعية. ويرى بوكتشين أن اللامركزية ستؤدي إلى" استخدام أكثر حكمة  للبيئة" فالمجتمع الذي ينظمه التراحم التلقائي بين الأفراد من شأنه أن يشجع التوازن البيئي بين الأفراد والعالم الطبيعي.

وتأثر تصور علماء البيئة عن المجتمع الصناعي دون شك بكتابات كروبوتكين وويليام موريس، فقد تبنت الحركة الخضراء من الفكر الأناركي أيضا أفكارا كاللامركزية وديمقراطية المشاركة والعمل المباشر، ولكن على الرغم مما تقدمه الأناركية من تصور لمستقبل بيئي صحي فقلما تتخذ كوسيلة لتحقيق ذلك، فأنصارها يؤمنون بأن التقدم لن يكون ممكنا إلا بسقوط الحكومة وجميع أشكال السلطة السياسية، بينما ينظر الكثير في الحركة الخضراء إلى الحكومة على أنها أداة لتفعيل العمل الجماعي وتنظيمه، وبالتالي تصبح الحكومة حتى لو على المدى القصير أنسب الوسائل لمواجهة الأزمة البيئية، وهم يخشون من أن القضاء على الحكومة أو حتى إضعافها قد يطلق العنان للقوى التي أحدثت التقدم الصناعي وأفسدت البيئة الطبيعية في المقام الأول.

الحركة النسائية البيئية

تقدم الحركة النسائية  تناولا فريدا ومميزا للموضوعات الخضراء إلى حد أن تطورت الحركة النسائية البيئية لتصبح أحد أكبر المدارس الفلسفية للفكر البيئي، وموضوعها الأساسي يتمثل في أن جذور الدمار البيئي تعود إلى البطريركية الذكورية؛ فالطبيعة معرضة  للتهديد لا من قبل الجنس البشري كله ولكن من قبل الرجال ومن مؤسسات سلطة الرجل.

ومؤيدو الحركة النسائية الذين يتبنون موقفا جندريًا Gender Perspective  من الطبيعة البشرية (لا يميزون بين الذكورة والأنوثة وينكرون الفروق بينهما)  يرون أن البطريركية قد شوهت غرائز وأحاسيس الإنسان عبر عالم التنشئة "الخاص" والعلاقات الشخصية و الأسرية، ومن ثم فإن التقسيم القائم على الجنس (المرأة للبيت/ والرجل للكسب والإنفاق) من شأنه أن يحث الرجل على التقليل من قدر المرأة والطبيعة؛ حيث يرى الرجل نفسه "سيداً" لكليهما، ومن هذا المنظور يمكن تصنيف علم الحركة النسائية البيئي  كشكل خاص من علم البيئة الاجتماعي.

والتناقض الطريف أننا نلاحظ تبني الكثير من مؤيدي الحركة النسائية البيئية المذهب الحتمي essentialism؛ حيث تقوم نظرياتهم على الاعتقاد في الاختلافات الجذرية والحتمية بين الرجل و المرأة والتأكيد على أن المرأة أكثر حفاظاً على الطبيعة؛ لأنها الأم حاملة قيم الرعاية والرحمة، وهو ما يؤدي إلى مركزية الأنثى في النهاية.

وقد تبنت ماري دالي مثلا مثل هذا الموقف في علم أمراض النساء من منظور  البيئة؛ حيث رأت أن المرأة ستحرر نفسها من الثقافة البطريركية الأبوية الذكورية إذا تحالفت مع "طبيعتها الأنثوية".

 والمفهوم الذي يربط المرأة بالطبيعة ليس بجديد، فديانات ما قبل المسيحية والثقافات البدائية طالما صورت الأرض والقوى الطبيعية كإله، وقد أُحييت هذه الفكرة من جديد في افتراض جايا السابق الذكر. ومؤيدو الحركة النسائية المحدثون يبرزون القاعدة البيولوجية لقرب المرأة من الطبيعة في حقيقة حملها للأطفال وإرضاعهم، كما يشكل التصاق المرأة بالإيقاعات والعمليات الطبيعية توجهها السياسي والثقافي.

ومن ثم تتمثل القيم "الأنثوية" التقليدية في مبدأ المعاملة بالمثل والمشاركة والتنشئة، وهي قيم "لينة" ذات طابع بيئي، وإذا كانت ثمة رابطة "حتمية" أو "طبيعية" تربط بين المرأة والطبيعة؛ فلأن علاقة الرجل بالبيئة تختلف اختلافًا شديدًا، فبينما المرأة تعتبر كائنا طبيعيا يعد الرجل كائنا ثقافيا، فعالم الرجل صناعي من صنع الإنسان، وهو نتاج الإبداع البشري لا الإبداع الطبيعي؛ إذًا يتقدم الفكر في عالم الرجل على الحدس ترتيبا، وتتفوق القيمة المادية على الروحانية، كما يكون الاهتمام بالعلاقات الميكانيكية أكثر من العلاقات الكلية holistic .

 انعكس ذلك في الصعيد السياسي والثقافي في الإيمان بتحقيق الذات والتنافس والتدرج الهرمي وإيحاءات ذلك للعالم الطبيعي واضحة، ومن هذا المنظور تسيطر الثقافة من خلال البطريركية على البيئة؛ حيث تصبح الطبيعة ما هي إلا قوى وجب تسخيرها أو استنزافها أو تخطيها. وبالتالي يمثل كل من الدمار البيئي وعدم المساواة القائم على النوع جزءًا من عملية هيمنة الرجل"المثقف" على المرأة"الطبيعية وهي رؤية تكرس الصراع في دائرة مفرغة موظفة البيئة كموضوع لتكريس التمركز حول الأنثى.  

 

الصفحة السابقة                                                  صفحة العناوين                                          الصفحة الموالية