التفكير النقدي و المدرس

التفكير النقدي و المدرس

التفكير النقدي و المدرس ، أية ممارسة ؟
دراسة للأستاذ : عبد العزيز قريش ـ فاس (2)  

        4 ـ تحديدات إجرائية : في ظل الإبستيمولوجيا يطرح التساؤل مصطلحاته الرئيسية للتحديد الإجرائي كالتالي:

            4 . 1 ـ التفكير : سيرورة ميكانيزمات و آليات و علاقات عقلية منتجة للفكر و الفعل .

            4 . 2 ـ النقد : آلية اكتشاف مواطن الخلل و طرح البديل .

            4 . 3 ـ التفكير النقدي : سيرورة إنتاج آلية اكتشاف الاختلالات الموضوعية و المنهجية في الفكر و الفعل .

            4 . 4 ـ المدرس : المعلم الذي يمارس التدريس بالسلك الأول من التعليم الأساسي المغربي .

            4 . 5 ـ الممارسة : أجرأة التفكير النقدي في مهام المدرس .

         5 ـ جدية التساؤل :  تنحصر في منحيين ، منحى نظري و آخر علمي .

            5 . 1 ـ الحد النظري : بما أن المنهاج الدراسي المغربي حول الدراسات المنجزة حوله ، تدل على أنه موضوع . في غياب نظرية فلسفية تربوية و نفسية و اجتماعية معينة وواضحة ، بل موضوع في إطار نظري خليط ـ هجين ـ من مقتطفات من نظريات تربوية و نفسية لا تراوح الجانب اللغوي إلى الجانب الجوهري و الشكلي و الإجرائي ، خلال الإطار الديداكتيكي منه الذي قام قام وفق بيداغوجيا الأهداف ضمن النظرية السلوكية ، و ضمن ضبابية كثيفة تحجب جوهر هذه البيداغوجية عن أغلبية المدرسين ،ومن ثم فامتلاك نظرية واحدة مطروحة في الحقل التربوي التعليمي المغربي ـ على افتراض وجودها ـ  في الحد الأدنى ، و ضبط تفاصيلها من قبل المدرس و من جاراه من أهل التربية و التعليم ركن أساس و رئيس في تكوين فكره النقدي ، و الرؤية التساؤلية التفحصية الاستفهامية في أداء مهامه ، حيث تتيح له النظرية آليات النقد البناء في مقاربة إشكاليات و تعقيدات المنهاج الدراسي في تساوق مع إشكالية الممارسة الصفية . " فالإنسان الذي لا يتقن النظرية ، و الذي لا يلم بجميع خفاياها ، لا يقدر ، موضوعيا على نقدها . فغياب الفكر النقدي ليس سبب تأخرنا في ميدان العلوم الاجتماعية ، بل هو نتيجة موضوعية لعدم تعاطينا جديا مع المسألة النظرية  " .

        فالتربية / التعليم تحتاج اليوم أكثر من البارحة مراجعة نقدية شاملة في بناها ، و أهدافها ، و مناهجها ، و استراتيجياتها ، و آليات أدائها ، من قبل المدرس قبل المراجعة المركزية التي تقوم بها المؤسسة الرسمية ، و هي ليست مراجعة تقوم على تحديث و تجديد المباني و المعينات البيداغوجية و الوسائط الديداكتيكية ، و ترميم البرامج الدراسية فحسب ، و إنما تقوم على تحديث العقل البشري ، و بنائه على أسس الحرية ، و الوعي الحضاري ، و الإنتاج و الإبداع بشروط العقلانية و الموضوعية و الترشيد و النقد البناء و العلمية و الإجرائية .ضمن إطار واضح و مستنير ، و محاط بالمعايير القيمية للهوية الإسلامية ، و لا يتم ذلك إلا من خلال الاطلاع على النظريات الموجودة في الساحة التربوية التعليمية و الاجتماعية ، و محاولة تكييف إجرائياتها وفق المعطى الواقعي الوطني . بل نذهب إلى أبعد من هذا الطرح ، حيث نتمنى على التربويين تأسيس نظرية مغربية في الميدان التربوي يقوم عليها بنيانه .

        و ضمن هذا الإطار يمكن تحريك التساؤل بين النظريات السائدة في علم النفس التربوي ، و سوسيولوجيا التربية تعقب إدعاءات المنهاج الدراسي في تبنيه مباىء و أسس هذه النظرية ، و التساؤل عن مدى و جود التفكير النقدي لدى المدرسة نظريا و تطبيقيا . 

        5 . 2 ـ الحد العلمي : " هل يشك أحدنا أن صيغة السؤال أو الاستفهام كانت ، و ما زالت ، هي دائما قطرة أول الغيث و مفتح الطريق اللانهائي أمام المعرفة الإنسانية ؟ لا أضن ... فنحن لو حاولنا مثلا البحث عن صيغة أخرى نضع فيها الجملة السابقة ، لما وجدنا سوى الصيغة نفسها ، صيغة الاستفهام ، و أنه لمثال وحيد لعله ساذج ، على المكانة التي يحتلها هذا الفعل الإنساني الخلاق ، فعل السؤال فهو أعظم مفردات اللغة ، وهو الفعل الذي تملك الإنسان بفضل قدرته المتفردة بين الكائنات على التطور أو التغيير من حال إلى حال . فمع ظهور أول علامات الاستفهام ، انفتحت أما العقل البشري طاقة الحوار ، و تعرف عقله على آلية الاحتمال ، و طرائق البحث عن الجوهر أو العلة ، فلا توجد أمام الحيوان مثلا سوى علة واحدة للشيء ، و هي علة شرطية قاطعة ، تعمل على النمط الطبيعي ، أمام القالب ، أو رد الفعل المباشر. و مع تعدد العلل و الأنماط و القوالب ، و تداخل احتمالات الإجابة أو ردود الفعل ، تطور الخيال البشري ، فقد أصبح مجازيا عير مباشر مما يسمح لنا في إطار أول قطرة الغيث ، و مفتاح الطريق اللانهائي أمام المعرفة الإنسانية أن نحاصر التساؤل بفرضيتين و أخرتين بديلتين .

        الفرضيات الصفرية : و تتمثل بــ : 

        5 . 2 . 1 ـ ( ف .ص .أ ) : المنهاج الدراسي مبني على نظريات فلسفية علمية تربوية نفسية اجتماعية معينة ، نفيا للواقع الذي يقوم العكس .

         5 . 2 .  2 ـ  ( ف . ص . ب ) : المدرس يمتلك كفاية التفكير النقدي و يؤجرؤه في ممارسته الصفية ، خلافا لما يدعي عليه به .

        الفرضيات البديلة : و تتمثل بــ :

        5 . 2 . 3  ـ ( ف . ب . أ ) : المنهاج الدراسي مرتجل غير مبني على نظريات فلسفية علمية تربوية نفسية اجتماعية معينة طبقا للواقع المعيش .

         5 . 2 . 4  ـ  ( ف . ب . ب ) : المدرس لا يمتلك كفاية التفكير النقدي ، و لا يؤجرؤه في ممارساته الصفية كما يدعى عليه به .

        إلى أي حد تصدق الفرضيات الصفرية أو البديلة ؟

        وطر : نتوقع من فتح هذا التساؤل على البحث أن تموضع إجابته ـ من قبل مفكرينا و باحثينا ـ التفكير النقدي في كفايات المدرس في النقد الإبستيمي و أجرأته في واقعه . و حتى تجعل ـ أي الإجابة ـ من الأداء المهني المتميز المرجع الأساسي في تعريف الهوية الشخصية ، باعتبارها هوية مهنية منتجة في المقام الأول ، وليست حسبا أو نسبا . كما تجعل من الإنجاز معيار القيمة الذاتية و المجتمعية على حد سواء ، فالتميز في الأداء هو صانع القيمة . و محدد المكانة ، بل ورافعها إلى مراتبها العليا . إنها قوة الجدارة ‎Power of merit التي تصنع من حيث تعريفها ذاته ، و لا تعطي هبة أو تنال خطأ أو خطوة .

        لقد بدلت المجتمعات المتقدمة جهودا كبيرة لتحويل معيار القيمة من المكانة و الخطوة ، إلى التمهين و التميز في الإنجاز حتى أصبح الشرف المهني هو المرجع في تقدير إنسان تلك المجتمعات لقيمته و حكمه على سلوكه ، و حين يقال عن عمل ما (( أنه حقا إنجاز مهني متميز يمثل ذلك أعلى مراتب تحقيق الذات ، تلك هي إحدى التحولات الثقافية الكبرى التي أنجزتها المجتمعات المتقدمة في عمليات التنشئة و هو ما جعل نهضتها ممكنة و ساعدها على احتلال مواقع ريادية ، لقد أصبحت ثقافة الإنجاز في تلك المجتمعات تشكل "النظرة إلى العالم" ‎World view التي تحدد التوجه و المعيار في التنشئة كما في التعليم و التدريب ، حين يشب الطفل في تلك المجتمعات لا يرى لذاته من مفهوم سوى مفهوم الإنسان المنجز ، و حين يتطلع إلى مكانته ، لا يرى سبيلا إليها جدارة الأداء ، الأداء الذي تحتل برؤيته النظرية النقدية لتقويمه و تطويره .


صفحة العناوين