سؤال حير الكثيرين

هل أجسادنا يمين أم يسار؟؟

سؤال حير الكثيرون...

تطالعنا نشرات الأخبار والمجلات بين الوقت والآخر ، بحالات مرضية كثيرة نتعجب لها ، وهى حالات لأطفال اكتشف أن قلبهم فى عكس مكانه الطبيعي ، أو أن معدتهم فى الاتجاه المعاكس ، وكثيرًا ما نسمع أن الكبد أو الطحال قد حدث تبدُّل فى جهة تواجدهم . بل إن هناك حالات نجد فيها أن جميع الأعضاء الداخلية ( وحيدة التناظر ) فى أماكن معكوسة عن وضعها الطبيعى .
نسمع هذا ونتعجب وربما نتساءل كيف يحدث هذا ؟
شغل هذا الموضوع الباحثين أيضًا بشدة ، وهنا وجدوا ثلاثة أنواع مختلفة من هذا النوع من الأمراض الأول هو

Situs inversus

 أو ما يسمى بالتوضع المقلوب ، وفيه تكون جميع الأعضاء ـ وحيدة التناظر ـ فى المكان المعاكس لها : أى أن أعضاء الإنسان الداخلية تصبح صورة فى المرآة.
 ولمزيد من الشرح ، فإن الأعضاء الداخلية وحيدة التناظر هى الأعضاء التي يوجد منها عضو واحد فقط فى الجسد ، كالقلب والمعدة والكبد والطحال . هذه الأعضاء بعضها يأخذ الجهة اليسرى من الجسد والبعض الآخر يلزم الجهة اليمنى ؛ ففى الإنسان نجد أن : القلب ( جهة اليسار ) ، المعدة ( يسار ) ، الكبد ( يمين ) ، الطحال ( يسار ) ، وربما يختلف هذا من كائن إلى آخر ، ومن جنس إلى آخر . ولقد وُجِد أن فى حالة
situs inversus هذه تكون الأعضاء فى الاتجاه المعاكس فيكون : القلب

 ( يمين ) ، المعدة ( يمين ) ، الكبد ( يسار ) ، الطحال ( يمين ) .
والغريب فى الأمر أن هؤلاء الأفراد المصابين بهذه الحالة تكون حالاتهم طبيعية تمامًا ، ولا يعانون من أية مشاكل ، وهذا يدل على أنه مادامت الأعضاء الداخلية تأخذ نفس الترتيب ، وأن التغير حدث لجميع الأعضاء ككل ؛ فلا توجد إذن مشكلة ، ولكن المشكلة الرئيسية ظهرت للمرضى بالمرض من النوع الثاني هو يسمى

 Isomerism  

 وفيه يكون لدى المريض نصفان يمين أو نصفان يسار ، ولكن دون المساس بالقلب ؛ أي يصبح لدى المريض طحالان ، ولا يوجد لديه كبد على الإطلاق ، أو يوجد لديه كبدان ، دون أن يتواجد لديه طحال . ولقد وُجِدَ أن المصابون بـ Left isomerism ، أى أن الأعضاء الموجودة فى جهة اليسار هى المكررة ، أفضل حالا من المرضى بـ right isomerism ، أى الذين تكون أعضاؤهم جهة اليمين هي المكررة . وحتى الآن لم يتوصل العلماء إلى سبب كَوْن الحالة الصحية للفئة الأولى أفضل من الفئة الثانية ، بل إن الفئة المصابة بـ right isomerism غالبًا ما لا تعيش أكثر من عام .
النوع الثالث ، وهو الأكثر انتشارًا ، هو النوع الذى يصيب عضو واحد فقط ، كالقلب مثلا ، كأن يكون القلب فى الجهة اليمنى لدى الإنسان ، أو اليسرى لدى الكتكوت ،
فهذه الأوضاع تعتبر الأوضاع المعكوسة عن الفرد الطبيعى .

لقد فكر العلماء فى أن حل المشكلة يكمن فى الإجابة على سؤال محدد ؛ هذا السؤال هو : ما الذى يتحكم فى أن يأخذ عضو ما جانبًا معينًا دون الآخر فى الجسد ؟
سنقوم بالتركيز أولاً على القلب ، نظرًا لأنه العضو الأكثر تأثرًا ، وُجِدَ أن جميع الأجنة فى المراحل المبكرة جدًّا تكون متناظرة ؛ أى أن الجانب الأيمن مرآة للجانب الأيسر ، ولكن هذه الصفة تنتهى فى وقت مبكر عند بدء القلب فى التشكل . والقلب يتشكل من مجموعتين من الخلايا التي تسمى بحقول القلب
heart fields ، لتعطى التكوين المسمى بأنبوب القلب heart tube ، ثم تبدأ عملية التفاف القلب المتنامى . ولقد وُجِدَ عند دراسة أجنة الكتكوت وجود عدة بروتينات هي المسئولة عن عملية وجود التفاف القلب إلى الجهة السليمة ، أهم هذه البروتينات (القنفذ الصوتى ) sonic hedgehog ، هذا البروتين يفرَز من الجانب الأيسر من عقدة ( هنسن ) فى القلب الأولى فى حالة الالتفاف الطبيعى ، إلى الجهة اليمنى فى أجنة الكتكوت ، أما إذا حدث وأُنْتِجَ هذا البروتين من الجانب الأيمن من عقدة ( هنسن ) ؛ فيؤدى هذا إلى التفاف القلب إلى الجانب المعاكس للوضع الطبيعى . وتلعب دورًا ـ بجانب هذا البروتين ـ مجموعة من البروتينات الأخرى مثل : ( العقدى ) nodal ، وبروتين lefty ، وهما أيضًا يفرزان من الجانب الأيسر ، أما بروتين ( الأكتفين ) فهو يفرز من الجانب الأيمن .
إذن ، إذا أفرز كل من ( القنفذ الصوتى ) و ( العقدى ) من الجانب الأيسر لعقدة ( هنسن ) ، و (الأكتفين ) من الجانب الأيمن لكان التفاف القلب إلى الجهة الطبيعية . أما إذ حدث وتعرض الجانب الأيمن لعقدة ( هنسن ) ( للقنفذ الصوتي ) و ( العقدى ) فَوُجِدَ أن هذا يؤدى إلى ظهور 50 % من القلوب فى الاتجاه الطبيعى ، و50 % من القلوب فى الاتجاه المعاكس . وفُسِّرَ ذلك على أن كلا من ( القنفذ الصوتى ) و ( الأكتفين ) و ( العقدى ) إشارات لعوامل ما ، هى التى تؤدى إلى التفاف القلب ، لذا فعند إفراز ( القنفذ الصوتى ) و( العقدى ) من الجانب الأيسر ، يتجه القلب إلى الجانب الأيمن ، وهى الحالة الطبيعية عند الكتكوت ، أما إذا حدث وأفرز (القنفذ الصوتى ) و( العقدى ) من الجانبين الأيسر والأيمن ، أو لم يتم إفرازهما من أى جانب ، تفقد هذه العوامل الإشارات الخاصة بها ، فلا تدرى إلى أية جهة يتم التفاف القلب ؛ فيتم التفاف عشوائى إلى أية جهة ، مما يؤدى إلى نسبة الـ 50 % السالفة الذكر . ويعتقد العلماء أن حالات التفاف القلب إلى الجهة العكسية ، نتيجة لطفرة فى الجينات المسئولة عن إنتاج البروتينات السابقة ، ولكن هذه النظرية لم تؤكد بعد .
 ما سبق كان يتعلق بعملية التحكم فى اتجاه القلب على وجه الخصوص ، إذن ماذا عن بقية الأعضاء ؟
اكتشف جين معين يشفر إلى بروتين يسمى
pitx2 ، هذا البروتين يظهر فى الجانب الأيسر من القلب الأولى فى أجنة الكتكوت ، وهو أيضًا يؤثر مع ( العقدى ) و( القنفذ الصوتى ) فى اتجاه التفاف القلب ، ولكن بصورة أقل ، ووُجِدَ أن pitx2 يختلف عن البروتينَيْن السابقَيْن فى أنه يظل ينتج حتى مراحل متأخرة من التطور الجنيني ، كما وجد أن من أسباب حدوث عملية انعكاس وضع بعض الأعضاء ، هو وجود أكثر من نسخة من الجين الذى يشفر إلى pitx2 فى هذه الأعضاء ، مما يؤدى إلى زيادة الكمية المنتجة منه ، أى أن عند زيادة كمية هذا البروتين تحدث عملية الالتفاف العكسى للأعضاء ، وأكثر الأعضاء التي تحدث لها هذه الحالة هى الأمعاء . أيضًا لوحظ وجود عوامل أخرى تشترك مع البروتينات السابقة فى تحديد عملية الالتفاف ، وهى عبارة عن بناءات خلوية تسمى الأهداب cilia ، هذه الأهداب تشبة السياط ، وهى توجد على السطح الخارجى للخلايا المتخصصة.

إذن كيف تقوم هذه الأهداب بعمل تحديد الاتجاه ؟ وجد أن الخلايا العقدية التى تمتد أهدابها فى السائل المحيط بالجنين فى الفئران ، إذا أدارت أهدابها عكس اتجاه عقارب الساعة ، يؤدى هذا إلى جذب المواد المهمة مثل pitx2 و( القنفذ الصوتى ) و( العقدى ) و( حمض الريتينويك ) ، وهو أحد أشكال فتامين A ، إلى الجانب الأيسر من عقدة ( هنسن ) ، مما يؤدى إلى كسر التناظر الجنينى الأولى ، والبدء فى الاتجاه إلى أماكن الأعضاء الطبيعية ، ووجد أنه فى حالة عدم وجود هذه الأهداب ، أو غيابها ؛ فإن هذه البروتينات تتجه إلى الجهتين ، اليسرى واليمنى معًا ، مما يؤدى إلى اتجاه الأعضاء بطريقة عشوائية ، تتبع المصادفة ، وتؤدى إلى حدوث الكثير من الأمراض .
وهنا نجد سؤالا أخيرًا يُطْرَحُ بشدة ؛ وهو ما الذى يؤدى إلى إنتاج هذه البروتينات من الأصل ؟
وجد أن فيتامين
A يقوم بدور فعال فى هذه العملية ، ويعتبر من أحد العوامل الهامة التي تؤدى إلى إنتاج كل من ( العقدى ) و pitx2 وlefty ، عن طريق تنظيم الجينات الخاصة بإنتاجهم . 

الآن ، تُرَى هل استطاع العلم الإجابة على السؤال الذى بدأنا به الموضوع : هل جسدنا يمين أم يسار ؟

 

صديقكم الوفي*عزوز سعيد*من المغرب